الدول الأوروبية تهرول إلى التفاوض مع موسكو
التحركات الأوروبية الأخيرة تشير إلى رغبة في التفاوض مع موسكو بدلاً من الاستمرار في التصعيد العسكري، في ظل إدراك متزايد بأن تحقيق نصر عسكري كامل في أوكرانيا أصبح مستبعداً.
لم يكن استهداف الأراضي الروسية في شهر نوفمبر الماضي بالصواريخ البريطانية، ستورم شادو، خارج حسابات حكومة العمال البريطانية، التي كانت تتوخى من خلال ذلك دفع موسكو إلى تقديم تنازلات، ودفع الإدارة الأميركية الجديدة إلى التأني في مسالة إنهاء الحرب الأوكرانية لمصلحة كييف.
استهداف روسيا بالصواريخ الأميركية والبريطانية تجاوز الخطوط الحمر الروسية، التي وضعها الرئيس بوتين، الذي هدد باستهداف الدول التي تسمح باستخدام صواريخها ضد بلاده، بينما قال السفير الروسي في المملكة المتحدة، أندريه كيلين، إن استخدام ستورم شادو هو بمنزلة انخراط بريطاني مباشر في الحرب ضد روسيا.
لم يمض وقت طويل على تصريحات المسؤولين الروس حتى ظهر في الميدان، للمرة الأولى، الصاروخ أورشيكين، الذي يعني "شجرة البندق"، فرط الصوتي، مستهدفاً في نوفمبر الماضي أهدافاً عسكرية أوكرانية، الأمر الذي غيّر الحسابات الأوروبية ودفعها إلى إجراء مراجعة بشأن استراتيجيتها.
أوروبا، التي تبنّت استراتيجية المواجهة مع روسيا، أو كما سماها رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، حرب الوكالة ضد روسيا تبدلت بعد أن تبيّن لها صعوبة تحقيق انتصار مطلق، في ظل مواقف أميركية للإدارة الجديدة التي تفضل إنهاء الحرب الأوكرانية، فضلاً عن خطورة الاستثمار طويلاً في سياسة حافة الهاوية. وتتجه هذه الدول إلى تبني سياسة المساكنة مع الأوضاع المستجدة، وقبول الأمر الواقع بما أفرزته هذه الحرب من سيطرة روسية على أراضٍ أوكرانية، وتجلّى ذلك من خلال الشعارات التي تبدلت.
فبدلاً من شعار العمل من أجل "هزيمة روسيا في أوكرانيا"، والذي رفعه قادة أوروبا في بداية الحرب الأوكرانية، أصبح شعار المرحلة الحالية، وهو العمل من اجل "تحسين شروط كييف على طاولة المفاوضات مع روسيا".
تتسارع الخطى الأوروبية نحو حل الأزمة الأوكرانية، فألمانيا كانت أول المبادرين إلى التواصل مع الكرملين عبر إجراء المستشار الألماني شولتس مكالمة هاتفية مع الرئيس بوتين، وحثه على إنهاء الحرب والانسحاب من الأراضي الأوكرانية. البيان الصادر عن الكرملين كان أكثر وضوحاً في إشارته إلى قبول الطرف الغربي الأمر الواقع، بحيث أشار إلى أن "الاتفاقات المحتملة (لإنهاء الحرب في أوكرانيا) يجب أن تأخذ في الاعتبار المصالح الأمنية للاتحاد الروسي، وتنطلق من الواقع الجديد على الأرض. والأهم من ذلك معالجة الأسباب الجذرية للنزاع".
المبادرة الألمانية إلى التواصل مع الكرملين يبدو أنها كانت بضوء أخضر أوروبي، بحيث تلت هذه المبادرة تصريحاتٌ بريطانية تشي أيضاً بتغير كبير في المقاربة للأزمة الأوكرانية. للمرة الأولى يتحدث رئيس الحكومة البريطانية، كير ستارمر، في تصريح لافت، في الثالث من كانون الأول/ديسمبر عن أنه " يجب أن تكون أوكرانيا في أقوى موقف ممكن للمفاوضات". وهذا التحول الكبير في موقف أحد أكبر الداعمين للحرب في أوكرانيا يشي بتحول كبير في الاستراتيجية الغربية ضد روسيا.
تقارب أو استسلام للكرملين
كان لافتاً جداً التنازل الذي قدمه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، خلال مقابلته التلفزيونية في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي، عندما أبدى استعداده للتخلي عن عشرين في المئة من الأراضي التي سيطرت عليها روسيا في مقابل التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار أوكرانيا ووضع الأراضي الأوكرانية غير المحتلة تحت مظلة الناتو. قال زيلينكسي، في مقابلة مع قناة سكاي نيوز البريطانية، إنه "إذا أردنا وقف المرحلة الساخنة من الحرب، فنحن في حاجة إلى وضع أراضي أوكرانيا، التي تقع تحت سيطرتنا، تحت مظلة حلف شمال الأطلسي. نحن في حاجة إلى القيام بذلك بسرعة.
والأراضي المحتلة في أوكرانيا يمكن استعادتها بطريقة دبلوماسية". إشارة زيلينسكي إلى استعادة الأراضي المسيطَر عليها، دبلوماسياً، تدلّ على تنازل الأطراف الداعمة لبلاده في التوسع والاعتراف بفشلها في تحقيق الأهداف التي قامت عليها المواجهة الأطلسية ضد روسيا. ولعل إشارة الأمين العام الجديد لحلف الناتو، مارك روتي، عندما سُئل، في مؤتمر صحافي خلال قمة وزراء خارجية دول الناتو، عما إذا كان مستعداً لعملية سلام تسمح لروسيا الاحتفاظ بالأراضي التي سيطرت عليها، قال حرفياً إنه "عندما عرضت عدة دول على زيلينسكي، في فبراير 2022 طائرة تقله إلى مكان آخر، قال لها: لا أريد طائرة.
أريد ذخيرة. وأستطيع أن أقول لكم إن أوكرانيا لا تريد أفكاراً بشأن عملية السلام، أو شكل عملية السلام. علينا أن نضمن أن تحصل أوكرانيا على ما تريده لتصبح في موقع قوي عندما تبدأ محادثات السلام".
وتشير عدة مصار إلى وجود قناعة لدى المسؤولين في الناتو، مفادها عدم إمكان تحقيق نصر مطلق في أوكرانيا، وطرد القوات الروسية منها. وتبرز تعقيدات في مسار تحقيق السلام مع روسيا، ولاسيما عند الدول الغربية، وخصوصاً فيما يتعلق بآلية إنهاء الحرب. فقادة الناتو يرون أن من البديهيات أن موسكو لن تقبل، بأي شكل من الأشكال، انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. وربما إشارة زيلينسكي إلى قبول مظلة أطلسية تأتي في هذا السياق، بحيث لم يُشِر إلى مسألة الانضمام إلى الناتو.
ويتم تداول بعض المعلومات بشأن قبول الرئيس الأوكراني صيغةً ما توفّر لبلاده ضمانات أمنية. ومن ضمن المقترحات الأوروبية التوصل مع الجانب الروسي إلى ترتيبات أمنية، مثل عقد اتفاقات ثنائية بين روسيا وبعض الدول الأوروبية، كبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، توافق خلالها موسكو على نشر قوات لهذه الدول في أوكرانيا، وتزودها بمعدات عسكرية معينة.
وتواجه العواصم الأوروبية تحديات كبيرة، أهمها أنها ليست على رأي واحد بشأن كيفية إدارة المفاوضات وآلية الخروج من المأزق الأوكراني، إضافة إلى أزماتها الداخلية التي تعانيها هذه الدول، ومنها ألمانيا، التي تترقب انتخابات تشريعية قد تطيح المستشار شولتس، في حين يواجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بدوره، أزمة داخلية تتمثل بتأليف حكومة تمثل طموحات الفرنسيين، ناهيك ببريطانيا التي باتت أولوياتها تحصين الجبهة الداخلية من الأزمات التي تنخر اقتصادها ومجتمعها، بفعل عوامل كثيرة، منها البريكست والتيارات اليمينية، التي تحاول عزل البلاد عن أوروبا والعالم.
فالأجواء السائدة تشير إلى توجه غربي نحو هدنة مع روسيا لإيقاف الحرب، وليس عملية سياسية لتحقيق السلام بين كييف وموسكو. وقد تكون إشارة الأمين العام الجديد للناتو، مارك روتي، إلى ضرورة تغير عقولنا لتصبح أكثر استعداداً الحرب، من خلال زيادة الإنفاق والإنتاج العسكري، دليلاً على مخاوف من احتمال تعرض دولة أوروبية أخرى لمواجهة عسكرية مع موسكو. فالأمين العام لحلف شمال الأطلسي حذّر من "أن الخطر قادم إلينا بسرعة فائقة، وأن ما يحدث في أوكرانيا قد يحدث هنا. وبغض النظر عن نتائج الحرب الأوكرانية، فعلينا أن نكون مستعدين للمخاطر المقبلة، حتى نكون أكثر أمناً.
وفي إمكاننا أن نفعل ذلك، ومنع أي حرب على أراضي دولة عضو في الناتو". نداء الأمين العام الجديد قد لا يجد له آذاناً مصغية في أوروبا، ولاسيما في بريطانيا، بحيث أظهر رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أنه أكثر استعداداً للسلام من استعداده للحرب ضد روسيا، فالأولوية البريطانية باتت التركيز على الأهداف التي أعلنها مؤخراً للناخبين، مثل رفع مستويات المعيشة، وتقليص قوائم الانتظار في المستشفيات، وبناء مزيد من المنازل، على الرغم من أن قادة عسكريين يدقّون، بصورة متزايدة، ناقوس الخطر بشأن الحالة الخطيرة التي وصلت إليها البلاد عسكرياً.
التحركات الأوروبية الأخيرة تشير إلى رغبة في التفاوض مع موسكو بدلاً من الاستمرار في التصعيد العسكري، في ظل إدراك متزايد بأن تحقيق نصر عسكري كامل في أوكرانيا أصبح مستبعداً. ومع ذلك، فإن مسار التفاوض سيظل معقداً بسبب التحديات السياسية الداخلية والخارجية التي تواجه كِلا الجانبين.