العقوبات الغربية.. هل أفادت الاقتصاد الروسي؟
لم تؤدِ العقوبات إلى انهيار روسيا وتفككها أو إلى انقلاب الأوليغارشية والجيش على بوتين والإطاحة به، كما كان الطموح الأوروبي، وهذا يعني أن فعالية الإكراه الاقتصادي في العلاقات الدولية ليست دائمًا أكيدة.
-
الاقتصاد الروسي أظهر قدرة كبيرة على الصمود والمرونة.
في ردٍ على الدعوات الأوروبية إلى زيادة العقوبات على روسيا، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب "أنا مستعد لفرض عقوبات كبيرة على روسيا عندما تتفق جميع دول الناتو وتبدأ بتنفيذ الأمر نفسه، وعندما تتوقف جميع دول الناتو عن شراء النفط من روسيا".
واللافت أن الأوروبيين ما زالوا يعدّون آلية العقوبات أداة صالحة لكسب الحرب ضد روسيا، واستنزافها بما يدفعها إلى خسائر لا تستطيع معها استئناف الحرب، بالرغم من أن المؤشرات أثبتت عدم صوابية هذه الاستراتيجية على المديين القصير والمتوسط، ولا يمكن التكهن بنجاحها على المدى الطويل.
منذ حرب أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، أظهر الاقتصاد الروسي قدرة كبيرة على الصمود والمرونة، ولم يحصل الانهيار الذي توقعه الغربيون على الرغم من فرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ. ويشهد الاقتصاد الروسي معدلات نمو مرتفعة، خاصة في الفترة 2023-2025.
وبالرغم من أن الاقتصاد الروسي قد يعاني على المدى الطويل من بعض التحديات، لأن اقتصاد الحرب غير مستدام، ومن صعوبة الوصول إلى التقنيات عالية الجودة (أشباه الموصلات) وتراجع بعض القطاعات كقطاع الطيران المدني أو سواه، يشير العديد من الاقتصاديين إلى أن الغرب أخطأ في حساباته بشأن انهيار روسيا كنتيجة للعقوبات. ويعزو الاقتصاديون هذا الأمر لأن روسيا تمتلك اقتصادًا "حقيقيًا" يعتمد على السلع المادية الملموسة التي يحتاجها العالم، والموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، وليس على حجم الناتج المحلي فحسب الذي قد يعطي مؤشرات غير أكيدة تماماً.
وشهد الاقتصاد الروسي ارتفاعاً في معدلات النمو في السنوات التي تلت الحرب الأوكرانية ، ويعود ذلك إلى مزيج من العوامل، أبرزها:
1- عدم الالتزام العالمي بالعقوبات
لم تثبت العقوبات فعاليتها كما كان متوقعًا، ويعود ذلك أساسًا إلى عدم تبنيها عالميًا من قبل الدول غير الغربية، ولا سيما الصين والهند وتركيا ودول الخليج العربي، ودول الجنوب العالمي... نظرت هذه الدول إلى الصراع على أنه سياسة غربية وصراع لا دخل لها فيه، فأعطت الأولوية لمصالحها الاقتصادية.
2- ارتفاع أسعار الطاقة:
استفادت روسيا بشكل كبير من الارتفاع في أسعار النفط والغاز العالمية طوال عام 2022، ما وفّر لها إيرادات كبيرة وسهّل عملية تكيّفها الاقتصادي مع الواقع الجديد. وبعد جهود أوروبا للاستقلال عن الطاقة الروسية، تقوم روسيا ببيع النفط والغاز إلى دول أخرى، التي بدورها تبيع الغاز الروسي في الأسواق العالمية، ما يدل على أن حجم ودور روسيا الهائلين في أسواق الطاقة العالمية يجعلانها دولة بالغة الأهمية بحيث لا يمكن عزلها.
3- نمو الاقتصاد المحلي:
ويمكن إرجاع هذا النمو إلى أسباب متعددة أبرزها:
أ- زيادة الإنفاق العسكري الذي يعتمد بشكل أساسي على آليات السوق بدلاً من الأدوات القسرية مثل طلبات التجنيد الإلزامي أو التعبئة العامة أو خطط صناعية مفروضة.
ب- التوظيف في المجمع الصناعي العسكري: للحفاظ على الإنتاج اللازم للمجهود الحربي، زاد المجمع الصناعي العسكري من التوظيف بشكل ملحوظ. ونتيجة لذلك، اضطرت الشركات العسكرية إلى زيادة رواتب موظفيها بشكل كبير لجذب العمالة والاحتفاظ بها.
ت- زيادة الاستهلاك وتكيّف القطاع الخاص: أدت الرواتب الأعلى في قطاع الدفاع إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي انسحب على القطاعات الأخرى. تكيف اقتصاد السوق الروسي، عبر شركات خاصة ذات خبرة مع هذا الطلب المتزايد من خلال توفير السلع والخدمات الاستهلاكية.
ث- دور البنك المركزي الروسي: تصرف البنك المركزي الروسي، بسرعة وفعالية في الأيام الأولى للحرب لمنع تهافت الناس على سحب الودائع المصرفية ومنع انهيار القطاع المصرفي.
4- العقوبات "نفعت" الاقتصاد الروسي
أ- احتواء هروب رؤوس الأموال: كانت إحدى المفارقات الأكثر لفتاً للانتباه. أدت مصادرة الاحتياطيات والأصول الروسية في الخارج إلى فقدان الثقة في الأسواق الغربية كملاذ آمن. نتيجة لذلك، اضطر المستثمرون والأوليغارشية إلى إعادة استثمار أموالهم داخل روسيا، ما وفّر سيولة محلية ودعماً للاستثمار في البنية التحتية والقطاعات المحلية، بدلاً من تهريبها إلى الخارج.
ب- تحفيز "الاستبدال المحلي" والتصنيع الداخلي: أجبرت العقوبات ورحيل الشركات الغربية روسيا على الاعتماد على نفسها. تم اعتبار فراغ السوق الذي خلّفته الشركات الكبرى الأجنبية فرصة ذهبية للشركات الروسية للتوسع وملء الفراغ. هذا أدى إلى تنشيط التصنيع المحلي في قطاعات معينة، وحفّز روح الابتكار للالتفاف على القيود.
ت- تعزيز السيادة الاقتصادية: دفعت العقوبات الدولة الروسية نحو مزيد من "الانكفاء الاقتصادي المدبر"، ما قلل من اعتمادها على الواردات في السلع الأساسية والغذاء، ودفعها إلى تطوير سلاسل توريد بديلة مع دول "صديقة" مثل الصين والهند وتركيا.
في النتيجة، تُسلط هذه المؤشرات الضوء على فشل نظام العقوبات بشكل عام، فلم يحصل أن أدّت العقوبات الأممية أو الغربية إلى سقوط النظام كنتيجة للعقوبات، بل احتاج الغرب إلى تدخل عسكري لاحق لإسقاط النظام كما حصل في العراق.
كذلك، لم تؤدِ العقوبات إلى انهيار روسيا وتفككها أو إلى انقلاب الأوليغارشية والجيش على بوتين والإطاحة به، كما كان الطموح الأوروبي (والذي تم التعبير عنه على لسان العديد من المسؤولين) ... وهذا يعني أن فعالية الإكراه الاقتصادي في العلاقات الدولية ليست دائمًا أكيدة، وقد تُسفر عن آثار عكسية.