خفايا الصراع في نيبال: معركة المنصّات الرقمية بين الصين وأميركا

لا تصنّف واشنطن نيبال ضمن "محور الشر"، لكنها أيضاً لا تنظر إليها بعين الرضا، فالفصائل التي قادت التمرّد الشيوعي مطلع القرن العشرين ضد الحُكم الملكي، كانت مصنفة ضمن المنظمات الإرهابية.

  • نيبال: نموذج حي للصراع الرقمي.
    نيبال: نموذج حي للصراع الرقمي.

لم يعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين محصوراً بالتجارة والبحار والممرات الاستراتيجية، بل امتد إلى العقول والوعي الجمعي للشعوب.

وفي قلب هذه المواجهة الجديدة، تقف تطبيقات التواصل الاجتماعي كسلاحٍ ناعم يوازي في تأثيره الطائرات الحربية وحاملات الطائرات، فواشنطن ترى أن السيطرة على فضاء التواصل تعني ضمان استمرار الهيمنة الثقافية والإعلامية، تماماً كما فعلت هوليوود والفضائيات سابقاً. أما بكين، فتنظر إلى تطبيقاتها (WeChat، Douyin، Weibo TikTok) كأدوات استراتيجية لا تقل أهمية عن "الحزام والطريق"، إذ تتيح لها ربط مئات الملايين من الآسيويين بنظام رقمي صيني متكامل.

المستخدم الآسيوي، هنا، ليس مجرد رقم في إحصاءات التنزيلات، بل هو حلقة في معادلة النفوذ العالمي، فالقارة تحتضن أكثر من نصف سكان العالم، ومعظمهم من الشباب المتعطش للتكنولوجيا. ضمن هذا الإطار، يروّج الأميركيون لمنتجاتهم باعتبارها نوافذ توفّر لمستخدميها "حرية التعبير" و"الاستقلالية"، فيما يطرح الصينيون نموذجاً يقوم على "السيادة الرقمية" وتقييد المحتوى بما يخدم استقرار الدولة والمجتمع.

واقعياً، تستخدم الولايات المتحدة منصّاتها كقنوات لبث السرديات الغربية وقيم العولمة، وتطارد أي نشاط لا يتفّق مع سياساتها أو يُشكك في القيم التي تتبنّاها. والأهم من ذلك أن جميع تلك المنصّات باتت مجالاً خصباً لجمع المعلومات عن المستخدمين ومراقبة أنشطتهم. في المقابل، تحاول الصين البروز كقطب عالمي جديد في مجال تطبيقات التواصل، عبر طرح بدائل تمنع كبار المستثمرين الغربيين من احتكار عالم "السوشيال ميديا"، وتتركّز دعايتها على التشكيك في نزاهة منصات التواصل الأميركية، عبر التركيز على كونها صارت مجرد نوافذ مخابراتية.

بين عامي 2020 و2021، قامت السلطات الهندية بحظر ما يقارب 59 تطبيقاً صينياً. وخلال شهر مايو/أيار الماضي، حجبت أيضاً حسابات بعض وسائل الإعلام الصينية الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي الأميركية (فيسبوك، إنستغرام، تويتر X). هذه الوقائع لم تُثر ردود فعل واسعة حينها، وغالباً ما أثنت عليها وسائل الإعلام الغربية باعتبارها "خطوة تُحصّن الهند من الاختراق الصيني"، فيما رأى الصينيون في إجراءات نيودلهي تقييداً لـ"حرية تداول المعلومات"، ومحاولة لفرض منصات التواصل الأميركية على المواطن الهندي عبر حظر البدائل.

نيبال: نموذج حي للصراع الرقمي

تُعد نيبال مثالاً واضحاً على كيفية انعكاس الصراع الرقمي والثقافي بين القوى الكبرى على دول العالم الثالث، فهي دولة صغيرة المساحة (نحو 147 ألف كم2)، حبيسة لا تطل على بحار، وتقع بين الصين والهند، ويبلغ عدد سكانها نحو 30 مليون نسمة، 81% منهم هندوس.

كانت تحت الحكم الملكي لنحو 240 عاماً، إلى أن أُعلنت الجمهورية عام 2008، عقب انتصار القوى الشيوعية الماويّة التي قادت تمرداً واسعاً منذ عام 1996، حظي بدعم من الطبقات الشعبية محدودة الدخل.

تمر البلاد بظروف اقتصادية صعبة، موروثة منذ قرون، كما هي الحال في كثير من بلدان العالم الثالث محدودة الموارد. في الوقت نفسه، تواجه تحديات داخلية بسبب وجود قوى سياسية لا تزال تؤيّد النظام الملكي، وتطالب بعودة  الملك جيانيندرا، وتعلن عداءها لنمط الحكم الجمهوري. تلك القوى إما ذات طابع سياسي صريح، يطالب بتأسيس ملكية دستورية عوضاً عن إنهاء الملكية، وإما ذات طابع هندوسي محافظ، ترى أن النمط العلماني للجمهورية يتنافى مع التقاليد الدينية، وإما قوى داخل أجهزة الدولة ذاتها، وداخل قواها الأمنية.

لا تصنّف واشنطن نيبال ضمن "محور الشر"، لكنها أيضاً لا تنظر إليها بعين الرضا، فالفصائل التي قادت التمرّد الشيوعي مطلع القرن العشرين ضد الحُكم الملكي، كانت مصنفة ضمن المنظمات الإرهابية، كما أن بعض ساسة نيبال الذين تولّوا الحكم بعد عام 2008، وخصوصاً كيه بي شارما أولي، حاولوا دفع البلاد باتجاه التعاون مع الصين، وخصوصاً في ضوء التوترات التي ميّزت علاقة نيبال مع الهند، إذ زادت التجارة بين نيبال والصين بمقدار خمسة أضعاف بين عامي 2009 و 2012، كما تؤدي نيبال دوراً مهماً في مبادرة الحزام والطريق الصينية.

مواقع التواصل باتت عصب الحياة اليومي

حتى التاسع من شهر سبتمبر/أيلول الجاري، كانت حكومة نيبال تحت قيادة كيه بي شارما أولي، وهو رئيس الحزب الشيوعي النيبالي الموحد CPN (UML)، وكان قد تولى رئاسة الحكومة مرتين سابقتين؛ الأولى بين عامي 2015 و2016، والثانية بين عامي 2018 و2021، وهو يتميز بسياسة تمزج الأفكار اليسارية بالخطاب القومي، وحاول تطوير علاقاته مع الصين، كمحاولة لإحداث توازن في العلاقات مع الهند؛ صاحبة النفوذ التاريخي بالبلاد.

قبل أن يستقيل كيه بي شارما أولي من منصبه كرئيس للحكومة بخمسة أيام، اتخذ قراراً كان كفيلاً بإشعال البلاد، وهو حظر نحو 26 موقعاً وتطبيقاً للتواصل الاجتماعي، لكن القرار لم يصدر بناء على رأي شخصي أو انطلاقاً من هوى سياسي، إنما بناء على قرار من المحكمة العليا يُلزِم جميع المنصات الأجنبية بالتسجيل في وزارة الاتصالات، وتعيين مكتب محلي ومسؤول شكاوى وآليات امتثال داخلية. ورغم أن عدداً من التطبيقات الصينية التزم وسجل، وإن بشكل جزئي، فإنّ المنصات الأميركية اعتبرت نفسها فوق القانون، وتجاهلت الموضوع كله.

هدف السلطات في نيبال كان الحدّ من الأخبار الكاذبة والخطاب التحريضي ومكافحة الهويات المزيفة والجرائم الإلكترونية، وخصوصاً أن الحكومة استقبلت 29 ألف شكوى خلال 10 أشهر فقط. المبررات النيبالية لم تقنع منظمات حقوق الإنسان الغربية، وتم اعتبار الإجراء الحكومي "سلوكاً استبدادياً". وبالفعل، قامت بعض وسائل الإعلام الغربية بالتحريض على حكومة نيبال، على اعتبار أن حجب "فيسبوك وإنستغرام" يعني القضاء على مناخ الحرية!

خلال الأيام الأولى من الاحتجاجات، ظلّ الجيش النيبالي على الحياد، وهو ما ساعد التظاهرات على التوسع ومواجهة الشرطة، بل واقتحام بعض المباني الحكومية ومطاردة عدد من الوزراء في شوارع العاصمة كاتماندو. اللافت أنّ المحتجين لم يكونوا من الشباب صغار السن الذين تصدرت صورهم وسائل الإعلام فقط، بل سبقهم إلى ساحات التظاهر أعضاء من تيار مؤيد لإعادة النظام الملكي، بقيادة حزب راستريا برجاتانترا (RPP). هذه المفارقة تكشف عن خلل جوهري في بنية التظاهرات التي كانت تطالب بالديمقراطية، وهو أمر يعكس تحديات مشابهة في كثير من دول الجنوب.

الملاحظ أيضاً أنّ معظم وسائل الإعلام تجاهل حقيقة أن منصات التواصل الاجتماعي التي تم حظرها في نيبال أميركية المنشأ والملكية والتوجه، فهي إما تتبع شركات مثل ميتا أو غوغل، وإما يملكها الملياردير الأميركي إيلون ماسك. في المقابل، لم تُحظر المنصات الصينية، التي التزمت بقرارات المحكمة العليا النيبالية، التي ركزت على ضبط الفوضى التي تحدث عبر وسائل التواصل.

هنا، تظهر أزمة كبيرة تتعلق بصياغة المصطلحات الإعلامية، إذ يُنظر غالباً إلى الشركات الغربية على أنها كيانات عالمية محايدة، مع تجاهل أثر ملكيتها والسياسة التي تمثلها، لكن التجارب أثبتت أنّ الاقتصاد والسياسة لا ينفصلان، خصوصاً عند ملاحظة استغلال المنصات الأميركية للتأثير في المحتوى، مثل حجب أي محتوى مقاوم للمشروع الصهيوني على فيسبوك، أو "تأخير ظهور Downrankig" المواقع الإخبارية المنطلقة من روسيا وإيران في غوغل.

حتى في المجال التقني، يظهر التأثير العسكري والسياسي، كما في نظام GPS، الذي هو نظام عسكري أميركي تابع لوزارة الدفاع. لذلك، لجأت بعض الدول مثل الصين وروسيا إلى تطوير أنظمة ملاحة بديلة مثل BeiDou وGLONASS لضمان سيادة البيانات والملاحة الوطنية.

 الأجيال الجديدة وهيمنة الثقافة الأميركية 

الإجراء الذي اتخذته الحكومة النيبالية قبل استقالتها بحظر مواقع التواصل الاجتماعي الأميركية أعطى انطباعاً عن مواجهة محتملة للنفوذ الرقمي الأميركي، وخصوصاً في ظل تنامي العلاقة مع الصين، لكن رد فعل Gen Z (وهم الشباب والمراهقون الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاماً)، كانت صادمة لكثير من المتابعين.

الأحداث والاضطرابات الواسعة، من دون نفي العوامل الخارجية والداخلية التي أججت الأحداث، كشفت مدى اعتماد شعوب العالم الثالث الفقير، وخصوصاً الأجيال الجديدة، على مواقع التواصل الاجتماعي، من فيسبوك إلى يوتيوب إلى تويتر x، دون الانتباه إلى الجهات الأميركية التي تديرها وتتربح منها. ورغم أن البعض يربط أحداث نيبال بقرار اتخذه دونالد ترامب في وقت سابق بتعليق بعض المشاريع الممولة من الولايات المتحدة، والتي كانت موجهة إلى نيبال، فحتى الساعة لا تتوافر معلومات مؤكدة عن اشتباك أميركي مباشر في صناعة الحدث.

لكن الدرس الأهم الذي سيستخلصه صانعو القرار الأميركي، وسيروّجون له لاحقاً، هو أنه عندما تحاول حكومة في دولة صغيرة من العالم الثالث التصدي للنفوذ الرقمي للرجل الأبيض، سيكون التأثير الثقافي الأميركي وحده كفيلاً بخلق اضطرابات وقلق، مستفيداً من الوضع الداخلي الهش والظروف الاقتصادية الصعبة، وأن ثمة جيلاً جديداً نشأ في بيئة تقنية تخضع لهيمنة الولايات المتحدة؛ منذ طفولته يتفاعل مع منصات التواصل، ويستهلك إنتاجاً سينمائياً وفنياً أميركياً، ويعيش في مناخ إعلامي يرسخ لديه الانطباع الخاطئ بأن "العالم هو أميركا، وأميركا هي العالم".