العملات الرقمية: ميدان الصراع الجديد بين أميركا والصين

لم يعد الصراع بين أميركا والصين محصوراً في التجارة أو التكنولوجيا، بل أصبح يتمحور حول السيطرة على العالم النقدي الجديد، وهو جزء من التنافس بين القوتين على الهيمنة الاقتصادية والمالية العالمية.

0:00
  • الصراع الأميركي – الصيني على المستقبل المالي.
    الصراع الأميركي – الصيني على المستقبل المالي.

منذ نشأتها، ارتبطت النقود بمفهوم السلطة والسيادة. واليوم، مع دخول العالم مرحلة الثورة الرقمية، برزت العملات المشفّرة والعملات الرقمية الرسمية كأدوات جديدة تعيد تشكيل الخريطة المالية العالمية. ولم يعد الأمر مجرد نقاش تقني أو اقتصادي، بل تحوّل إلى جزء من سباق الهيمنة بين أميركا والصين على قيادة النظام النقدي الدولي.

والعملة الرقمية هي عملة إلكترونية، لا تُطبع ورقياً، تُستخدم في المعاملات عبر الإنترنت للشراء والتحويل المالي والاستثمارات. أُطلق عليها اسم عملة الإنترنت، وأصبحت عملة التطبيقات الإلكترونية في زمن ثورة الإنترنت.
وفي قلب هذا التحوّل الرقمي، تبرز ثلاثة أنواع رئيسية من العملات الرقمية، لكل منها خصائصه واستخداماته، ويحدد كل نوع دوره في الصراع العالمي الجديد على الهيمنة المالية.

النوع الأول: العملات المشفّرة  (Cryptocurrency)

عندما نسمع كلمة "عملة مشفّرة"، غالباً ما يتبادر إلى الذهن "البيتكوين" أو "الإيثريوم". هذه العملات لا تصدر عن أي حكومة أو بنك مركزي، بل تعتمد على تقنية الـ"بلوكتشين" (Blockchain)، وهي تكنولوجيا تقوم على تسجيل المعلومات بشكل شفاف وآمن وغير قابل للتعديل.

وتُعدّ تقنية الـ"بلوكتشين" من أهم ابتكارات العصر الرقمي، إذ تفتح الباب أمام ثورة في الثقة الرقمية. وغالباً ما تقوم استخدامات العملات الرقمية على:

1. تتبّع سلاسل التوريد.

2. العقود الذكية.

3. التصويت الإلكتروني.

4. حماية الملكية الفكرية.

وبالتالي، يمكن القول إن هذا النوع من العملات يمثّل "عملة القطاع الخاص" على مستوى عالمي.

النوع الثاني: العملات الرقمية للبنوك المركزية  (CBDC)

في المقابل، لم تقف الحكومات مكتوفة الأيدي، فظهرت العملات الرقمية الرسمية التي تُدار من قبل البنك المركزي في كل دولة، لتكون نسخة رقمية من العملة الوطنية، تماماً كما يُصدر البنك المركزي الأوراق النقدية، لكنه هنا يُصدرها رقمياً بالكامل، وتُعرف بعملة القطاع العام.

ومن أبرز الأمثلة:

• اليوان الرقمي: الصين، وهي التجربة الأكثر تقدّماً.

• اليورو الرقمي: قيد التطوير في الاتحاد الأوروبي.

• الدولار الرقمي: لا يزال قيد الدراسة في الولايات المتحدة.


ويمكن الاستنتاج أنّ الفارق بين الـ CBDC والعملات المشفّرة مثل بيتكوين، هو كالتالي:
• عملات البنوك المركزية (القطاع العام): صادرة عن البنك المركزي، مدعومة من الدولة، مستقرة مع نسبة ربح قليلة، منظّمة رسمياً، وتسهّل الدفع والتحويلات.
أما أهداف إصدار الـCBDC، فهي:

1. تعزيز الشمول المالي (توفير الخدمات المصرفية للجميع).

2. تقليل كلفة طباعة ونقل العملات الورقية.

3. التحكم بالسيولة المالية ومكافحة غسل الأموال.

4. مواجهة انتشار العملات المشفّرة الخاصة.

5. تحسين سرعة وكفاءة التحويلات المالية داخلياً وخارجياً.

• العملات المشفّرة (القطاع الخاص): لا مركزية، غير خاضعة للحكومات، عالية المخاطر، لكن أيضاً عالية العوائد، وتفتح باب التحرر من النظام المالي التقليدي.

وهذا النوع من العملات يهدف إلى:

1. التحرّر من الأنظمة المالية التقليدية: إنشاء نظام مالي لا مركزي لا تتحكم فيه البنوك أو الحكومات، ولا يخضع حتى الآن لنظام العقوبات السياسية.

2. الخصوصية وحماية البيانات.

3. تقليل التكاليف والوساطة والرسوم المصرفية لعدم الحاجة إلى وسطاء ماليين.

4. تشكيل أداة استثمارية جاذبة رغم تقلب أسعارها الكبير.

5. تقديم خدمات جديدة في القطاع المالي مثل العقود الذكية (Smart Contract).

6. مقاومة التضخم: بعض العملات الرقمية لها عرض محدود مسبقاً ما يجعلها أداة لمواجهة التضخم.

النوع الثالث: العملات الافتراضية  (Virtual Currency)

هنا ندخل إلى عالم الألعاب والمنصات الإلكترونية. هذه العملات ليست بيتكوين ولا يواناً رقمياً، بل عملات افتراضية تُستخدم داخل الألعاب والمواقع الإلكترونية.

تتميّز بأنها سريعة التحويل وبتكلفة منخفضة، وقابلة للاستخدام عالمياً من دون وسطاء، لكنها تبقى محصورة غالباً في بيئة الألعاب الإلكترونية رغم أنها كبيرة ومتنوعة جداً، وتكمن مخاطرها في تقلبات الأسعار أو استخدامها في أنشطة غير قانونية.

الصراع الأميركي – الصيني على المستقبل المالي

لم يعد الصراع بين أميركا والصين محصوراً في التجارة أو التكنولوجيا، بل أصبح يتمحور حول السيطرة على العالم النقدي الجديد، وهو جزء من التنافس بين القوتين على الهيمنة الاقتصادية والمالية العالمية. فالصين تراهن على "اليوان الرقمي" كأداة نفوذ عالمية، بينما تدرس الولايات المتحدة "الدولار الرقمي" للحفاظ على هيمنتها المالية.

هذا التنافس لا يقتصر على العملات، بل يمتد ليشمل الابتكار والتقنيات المالية، والسيطرة على مستقبل النظام النقدي الدولي. وبمعنى آخر، من يسيطر على العملة الرقمية غداً، قد يسيطر على الاقتصاد العالمي بأسره.