الصين وأميركا... توافقات تكتيكية وصراع استراتيجي
قيادة العالم على الطريقة الأميركية أمر لا تسعى إليه الصين، لاعتبارات أهمها أن هذا الأسلوب لا يتوافق مع التوجهات العامة للسياسة الخارجية الصينية، ولا يعد الأكثر منفعة لبكين.
-
ترامب والمضي في "سياسة شيطنة الصين"!
قدر العالم أن يحبس أنفاسه عند الحديث عن أي أزمة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، فالمواجهة بين العملاقين ستكون لها تداعيات كبيرة على الصعيد الاقتصادي على الأقل.
ما يزيد من تلك التداعيات هو أن الاقتصاد العالمي لم يتعافَ بعد، بعد أن تعرض لهزات، بدءاً من الأزمة الاقتصادية العالمية، مروراً بأزمة كوفيد 19 وتداعياتها، وانتهاءً بالحرب الأوكرانية التي أثرت على الاقتصاد العالمي كله.
الصراع بين الصين والولايات المتحدة الأميركية صراع مركب، وما الحرب التجارية التي أعلنها الرئيس ترامب إلا أداة من أدوات تلك المعركة.
المنافسة بين البلدين ليست سوى الصراع على "معركة المستقبل"، التي سيكون من أولى نتائجها الإقرار بمن سيحكم العالم.
قيادة العالم على الطريقة الأميركية أمر لا تسعى إليه الصين، لاعتبارات أهمها أن هذا الأسلوب لا يتوافق مع التوجهات العامة للسياسة الخارجية الصينية، ولا يعد الأكثر منفعة لبكين.
الفلسفة السياسية الصينية تركز على "النظرية الاعتمادية" في العلاقات الدولية، فالدول يكمّل بعضها بعضاً، ولا يمكن لإحداها الاستغناء عن غيرها.
بينما ركزت السياسة الأميركية على "النظرية الواقعية"، التي تؤمن بمبدأ القوة، القوة وحدها ولا شيء سواها، سبيلاً لإدارة العلاقات الدولية.
هذا المبدأ كرّس منطق الهيمنة، وغيّب مفاهيم العدالة والمساواة، فبات العالم يعيش رأسمالية متوحشة، كانت الدول الفقيرة أولى ضحاياها.
شجاعة ترامب...
يُحسب للرئيس ترامب أنه عمل على التصدي لمشكلة تاريخية أدت إلى تراجع الاقتصاد الأميركي، و"الاعتماد المفرط على الصين"، الذي بات يقلق غالبية دول العالم، وخاصة الأوروبية منها.
انطلق ترامب في عقيدته الاستراتيجية "أميركا أولاً"، من رغبته في الحفاظ على مكانة أميركا في التربع على عرش العالم، عبر التصدي لمعالجة الواقع الاقتصادي غير السوي.
هذه الرؤية تعبر عن قلقه أولاً، واعترافه بحجم المخاطر التي تنتظر الاقتصاد الأميركي، والرغبة في معالجة ذلك الخلل مهما كانت الطريقة.
مواجهة بكين كانت الهدف الأول لترامب، فالصين لم تعد مجرد منافس أو تحدٍّ للولايات المتحدة، بل أصبحت تهديداً يجب مواجهته.
المشكلة أن الولايات المتحدة يبدو أنها قد تأخرت في تلك المواجهة، بمعنى أن ذلك كان يجب أن يحدث قبل سنوات، أما اليوم فإن مواجهة الصين باتت كمن يطلق النار على قدميه.
نجحت الصين في هزيمة الولايات المتحدة الأميركية وفقاً للحكمة الصينية القائلة: "اهزم عدوك قبل أن يعرف أنك قد دخلت معه في منافسة"، وهذا ما تحقق فعلياً على أرض الواقع.
حجم التداخل بين الاقتصادين الصيني والأميركي بات كبيراً، ومن غير الممكن لعاقل أن يفكر بفصل أحدهما عن الآخر، وهو ما تجلى خلال الأزمة الأخيرة بين البلدين، التي أظهرت تحكم الصين في المعادن النادرة التي تحتاجها الولايات المتحدة.
تتكون المعادن النادرة من نحو 17 عنصراً، تدخل في صناعة 200 نوع على الأقل من الصناعات الحديثة، فعلى سبيل المثال، فإن هاتف آيفون يعتمد على نحو 7 عناصر نادرة.
تسيطر الصين على 70% من الإنتاج العالمي للعناصر الأرضية النادرة. كما تتحكم في 99% من تكرير المعادن النادرة و90% من الإنتاج العالمي، أي نحو 200 ألف طن من المغناطيسات الدائمة المصنوعة من سبائك معدنية وعناصر أرضية نادرة.
تنتج الصين 270 ألف طن متري من المعادن النادرة، في حين لم يتجاوز الإنتاج الأميركي 45 ألف طن متري، وفقاً لتقديرات العام 2024.
بلغ حجم سوق العناصر الأرضية النادرة العالمي 12.4 مليار دولار عام 2024، ويتوقع أن يبلغ السوق 37.1 مليار دولار بحلول عام 2033 بمعدل نمو سنوي مركب 12.8% خلال الفترة 2025-2033، وفقا لمجموعة "آي إم إيه آر سي".
هذه الأرقام وغيرها تظهر بعض أوراق القوة التي تتحكم فيها بكين، والتي تحتم على الولايات المتحدة السعي إلى التوصل إلى توافقات معها، بدلاً من التفكير في مواجهتها.
صلابة شي...
يعد الرئيس شي جين بينغ علامة فارقة في تاريخ جمهورية الصين الشعبية، فهو صاحب أكبر مشروع اقتصادي عرفه التاريخ (الحزام والطريق).
نجح شي في الابتعاد عن "الكاريزما المدمرة"، والتي كانت على الدوام جاذبية الطغاة، وحرص على الظهور بمظهر رجل الدولة، مكرساً نهجاً جديداً في تاريخ جمهورية الصين الشعبية الحديث.
استهل الرئيس شي عهده بطرح هذا المشروع في العام 2013، وهو ما سيترتب عليه توجهات جديدة في السياسة الخارجية الصينية لحماية مشروعها، باعتبار أن الطريق لن يكون مفروشاً بالحرير، بل مليئاً بالأفخاخ التي ستضعها الولايات المتحدة لوقف "التمدد الصيني".
لم تعد حدود الصين هي الحدود الطبيعية المتعارف عليها، بل باتت "الحدود الشفافة"هي حدود الصين الجديدة، فحدودها تصل إلى حيث تصل مصالحها الحيوية.
الانتقال من "الاقتصاد أولاً" إلى "العسكرة أولاً" بات هو الاستراتيجية الجديدة للصين، بعد أن أصبحت هدفاً تعمل الولايات المتحدة الأميركية على تفكيكه.
سياسة "النمور والذئاب" باتت السمة الأساسية لعهد الرئيس شي الهادفة إلى مكافحة الفاسدين كبيرهم وصغيرهم، وهو ما زاد من شعبية شي وأهّله للفوز بولاية ثالثة لرئاسة جمهورية الصين الشعبية.
نمو الصين لم يكن يقلق الولايات المتحدة، طالما أن هذا النمو كان على الصعيد الاقتصادي فقط، وعبر التركيز على الصناعات البسيطة كألعاب الأطفال والأواني المنزلية وغيرها.
انتقال الصين إلى التركيز على الصناعات التكنولوجية المتطورة، وتفوقها في مجال الذكاء الاصطناعي وتقنية 5G، يعني اقترابها من المحرمات التي لن تسمح لها الولايات المتحدة باقتنائها وتطويرها.
تركيز الصين على علوم الفضاء وإنترنت الأشياء، وانتقالها إلى بناء جيشها القوي، أمر بات يقلق الجميع، خاصة وأن بكين باتت مقتنعة أنه لا معنى لقوتها إذا لم تمتلك مقومات الدفاع عنها.
الخطط الواضحة التي رسمتها الصين بعناية، والدقة في تنفيذها، والقدرة على ذلك ضمن المدة الزمنية المحددة لكل هدف، أظهرت قوة القيادة الصينية، وزادت من شعبيتها عل الصعيد الداخلي، وجعلت من الصين بارقة أمل لباقي شعوب العالم في الخلاص من عصر الهيمنة الأميركية.
لقد صاغت الحكومة الصينية ثلاثة أهداف استراتيجية رئيسية ربطتها بتواريخ مهمة في التاريخ الصيني الحديث، فكان القضاء على الفقر في العام 2021، وهي الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
والعمل على استكمال بناء الجيش في العام 2027، (وهي الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الصيني)، ليكون قادراً على خوض الحروب الخارجية. والعمل على استكمال بناء الدولة في العام 2049 (وهي الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية)، لتصبح دولة عصرية، فالصين ما زالت تعرّف نفسها على أنها مجرد "دولة نامية". مع الإشارة إلى أن استكمال بناء الدولة لن يكون إلا بتحرير تايوان، باعتبارها قضية الأمة الصينية.
هذه الأهداف جرى العمل عليها عبر القيادات الصينية المتعاقبة، لكن قدر الرئيس شي أن يكون الإعلان عن تحقيق اثنين منها في عهده. فهدف القضاء على الفقر تحقق، واستكمال بناء الجيش سيتزامن مع نهاية الولاية الثالثة للرئيس شي.
من أجل تحقيق هذا الهدف زادت الصين موازنتها العسكرية، وبات مشهد ظهور الرئيس الصيني مرتدياً الزي العسكري أمراً معتاداً، رافق ذلك كله إقالة لكبار القادة العسكريين بتهم الفساد، فتطهير المؤسسة العسكرية من الفساد هو الأساس في بنائها بشكل صحيح.
الولايات المتحدة الأميركية ترى أن الصين لن تنتظر حتى العام 2049 لاستعادة تايوان، وترجح تقديراتها أن يتم ذلك في عهد الرئيس شي، وهو ما يزيد من القلق الأميركي الذي ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي لتايوان.
الحديث عن عودة تايوان أمر محتم بالنسبة للمواطن الصيني، وبات السؤال ليس هل ستعود تايوان، ولكن متى ستعود.
ترامب والمضي في "سياسة شيطنة الصين"...
سعت الإدارات الأميركية المتلاحقة إلى شيطنة الصين سعياً إلى تفكيكها، فصورت بكين على أنها دولة غير مسؤولة، واستهدفتها داخلياً عبر التركيز على ما سمي "الديمقراطية وحقوق الإنسان"، والترويج لأكذوبة اضطهاد الصين لبعض الأقليات المسلمة.
نجاح الصين في الدخول إلى منطقة الشرق الأوسط التي كانت تُعد تاريخياً "مناطق نفوذ أميركية"، أمراً أثار حفيظة بايدن، حيث سعت إدارته الحالية إلى استعادة تلك المنطقة المهمة في العالم.
تلك الاستعادة كانت عبر تخلّي الولايات المتحدة عن سياسة القوة التي استخدمتها في سياستها الخارجية، واللجوء إلى النموذج الصيني في "التدخل الناعم"، وهو ما نراه اليوم في سياسة ترامب تجاه المنطقة، وسوريا على وجه التحديد.
عودة الصين إلى المنطقة ستكون هذه المرة من بوابة القاهرة التي أغضبها استبعادها من جولة ترامب، والتصريحات غير المسؤولة من قبله في حق الولايات المتحدة باستخدام قناة السويس مجاناً، وسوى ذلك من سياسات.
التقارب المصري مع إيران يخدم تلك التوجهات، ولا سيما أن طهران حليف استراتيجي للصين، حيث يرتبط البلدان بشراكة استراتيجية مدتها 25 عاماً.
وختاماً، فإن الصين تسعى للوصول إلى اتفاق شبه عادل، لا عادل مع الولايات المتحدة، في محاولة منها لتأجيل أي مواجهة بين البلدين، فيما إذا كانت تلك المواجهة حتمية.