الاتحاد الأوروبي وخطر الفشل في ظلّ تخلّي واشنطن عن ثوابتها في أوكرانيا

اعتبرت الدول الأوروبية أنّ المسار الأميركي الحاكم لتوجّهات الحلف والمتمسّك بالحفاظ على موقعه في القارة الأوروبية من خلال مواجهة روسيا لن يخضع لأيّ تعديل بمرور الزمن.

0:00
  •  يعبّر دونالد ترامب عن حقيقة الرؤية الأميركية للاتحاد الأوروبي.
    يعبّر دونالد ترامب عن حقيقة الرؤية الأميركية للاتحاد الأوروبي.

لم يكن من الواقعي تصنيف الخلاف بين روسيا وأوكرانيا على أنه مجرّد نزاع بين دولتين بما يُمكّن من حصر نتائجه وتأثيراته في الحدود الجغرافية لكليهما. فالحراك الأوكراني الذي أدى إلى إسقاط يانكوفيتش كان يستهدف الانخراط في مواجهة روسيا من خلال الاستعداد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والتحوّل إلى ما يشبه رأس حربة القوى الغربية في مواجهة روسيا. 

ففي تلك المرحلة ورغم مستوى العلاقات الذي ساد بين الدول الأوروبية وروسيا، خصوصاً لناحية التعاون في مجال الطاقة، كان التقدير الأوكراني يفترض تضامناً مطلقاً بين ضفتي الأطلسي حول هدف احتواء روسيا، حيث كان حلف الناتو قد أعلن عام 2008 عن نيّته ضمّ أوكرانيا وجورجيا في المستقبل، بما يعني تبنّيه استراتيجية احتواء روسيا داخل حدودها ومنع تمدّدها نحو شرق القارة الأوروبية. وعليه، وجدت أوكرانيا فرصة سانحة لتحقيق هدف التفلّت من الواقع التقليدي لأوكرانيا والذي يمكن تعريفه بالخضوع لمتطلّبات الأمن القومي الروسي بعد الحرب الباردة.

ورغم ما أدّت إليه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وقبلها استعادة شبه جزيرة القرم، التي سبق أن تخلّى عنها الزعيم السوفياتي خروتشيف عام 1954، من تبنّي الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، لسياسة المواجهة الشاملة ضدّ روسيا حيث قدّمت دعماً عسكرياً ومالياً غير محدود لأوكرانيا وأتبعته أيضاً بـ 16 حزمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا،  فقد كان التوجّه الأوروبي في بداية الأزمة ينحو نحو محاولة تحصين الساحة الأوروبية من خلال البحث في كيفيّة الاستقلال الأمني والسياسي، وإرساء مرتكزات مشتركة تصلح للدفع باتجاه إدارة الأزمة استناداً على معيار يوائم بالدرجة الأولى بين مصالح الدول الأوروبية من جهة ومصلحة الاتحاد من جهة أخرى. 

وبطبيعة الحال، لم يكن التقدير الأوروبي لحقيقة الأزمة التي تعترض التكامل والاندماج ضمن مؤسسات الاتحاد الأوروبي وليد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عام 2022، وإنما يعود الفهم الأوروبي لهذه الأزمة إلى عام 2014، تاريخ ضمّ جزيرة القرم لروسيا، وربما قبل ذلك إلى فترة ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر حين بدأ الأوروبيون يستشعرون عمق التضارب وعدم إمكانية المواءمة بين التوجّه الأوروبي والتوجّه الأطلسي، حيث أظهرت دول أوروبا الشرقية ميلاً نحو تفضيل مؤسسات الأطلسي وعدم ثقتها بقدرة الاتحاد الأوروبي على ضمان أمنها ومصالحها.

وبنتيجة هذا الواقع بالإضافة إلى عدم تمكّن الدول الأوروبية من تخطّي عقدة الخوف التي أرستها الحرب الباردة في الوعي الأوروبي واعتبار السياسة الروسية امتداداً لسياسات الاتحاد السوفياتي، خصوصاً بعد إصرار بوتين على فرض واقع يناسب أمنه القومي في شرق القارة الأوروبية، وعدم تقبّله لتمدّد النفوذ الأطلسي نحو حدوده الغربية، اتخذت الدول الأوروبية بعد عام 2022 قرارها بمطابقة توجّهاتها الأمنية مع تلك الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي.

لقد اعتبرت الدول الأوروبية أنّ المسار الأميركي الحاكم لتوجّهات الحلف والمتمسّك بالحفاظ على موقعه في القارة الأوروبية من خلال مواجهة روسيا لن يخضع لأيّ تعديل بمرور الزمن، حيث إنّ الأحادية الأميركية والتفوّق الغربي لا يمكن أن يستمرّا إلّا من خلال سيناريو الحفاظ على علاقة التحالف والتكامل مع الاتحاد الأوروبي. وبالفعل لم يكن السلوك الذي مارسته إدارة بايدن بعيداً عن هذا السياق، حيث أظهرت صلابةً في موقفها وعملت على إظهار الحرب في أوكرانيا على أنها حرب الجميع في مواجهة روسيا.

وعليه، ذهب الاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا إلى أقصى الحدود حيث تخطّى في كثير من الأحيان المسار الأميركي. فمن خلال مقارنة العلاقات الأميركية والأوروبية مع الدولة الروسية يمكن تقدير حدّة الموقف الأوروبي مقارنة بالموقف الأميركي. فتقاطع المصالح الأوروبية مع الدولة الروسية لناحية أمن الطاقة والتهديد الأمني المحتمل نتيجة تداخل الحدود بين الطرفين لا يمكن أن يقارن بالمصالح الأميركية مع روسيا، إذ إنّ الحاجة الأميركية للطاقة الروسية تكاد تكون معدومة بالإضافة إلى التباعد الجغرافي الذي يجعل التأثير الأمني بمستوى متدنٍ جداً. 

وعليه، بعد أن كان توصيف الحرب في أوكرانيا يعبّر عن تجاذب أميركي روسي عنوانه التنافس التاريخي بين الطرفين حول الريادة العالمية والنظام الدولي حيث تسعى الولايات الأميركية للمحافظة على قيادتها الأحادية، تحوّلت هذه الحرب في نظر أوروبا إلى مواجهة حول السيادة والأمن الأوروبي في مواجهة دولة تسعى، وفق الأوروبيين، لفرض هيمنتها على القارة الأوروبية.

 من ناحية أخرى، تفرض إشكالية النظرة الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي نفسها لناحية أنّ الطريقة الأميركية في التعاطي معه لم تدلل على علاقة استراتيجية متينة. فالقناعة الأميركية بتأكّل الوزن الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد وعدم تمكّن دول الاتحاد من رفع مساهمتها الدفاعية في موازنة حلف شمال الأطلسي بالإضافة إلى ارتفاع أصوات البعض، كفرنسا وألمانيا، حول ضرورة رسم سياسة أمنية ودفاعية مستقلة عن الولايات المتحدة وحلف الناتو، قد دفعت لتظهير هذا التعاطي الأميركي على أنه مصلحيّ يعبّر عن حاجات محدودة ولا يتخطّاها ليُترجم على أنه تحالف استراتيجي غير مشروط.

في هذا الإطار، يعبّر دونالد ترامب عن حقيقة الرؤية الأميركية للاتحاد الأوروبي، حيث إنه واظب منذ انتخابه على توجيه الانتقادات لعدة دول أوروبية، وأوحى بإمكانية انقلابه على سياسات بلاده التاريخية لجهة علاقاته مع الأوروبيين، من دون أن ننسى تهديده بوقف تمويل الناتو وإمكانية فرضه لرسوم جمركية على المنتجات الأوروبية. 

أما فيما خصّ موقفه من أوكرانيا، فقد أظهرت المفاوضات الروسية الأميركية إمكانية إقدام دونالد ترامب على وقف مساعداته المالية والعسكرية لأوكرانيا، ونيّته التفاوض مع روسيا بشكل منفرد من دون إشراك الاتحاد الأوروبي وحتى من دون إشراك أوكرانيا.   

حتى اللحظة، لم يظهر الاتحاد الأوروبي قدرةً على مواجهة هذا الواقع حيث شدّدت مسؤولة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي كايا كالاس على ضرورة أن تبقى الولايات المتحدة حليفة، وأظهرت تقبّلاً لضرورة زيادة الإنفاق على الدفاع بما يدلّل على نيّتها الالتزام بإملاءات ترامب. فعلى الرغم من أنّ دونالد ترامب قد رسم إطار الحلّ في أوكرانيا ضمن حدود العلاقات الأميركية الروسية فقط، لم ينطق المعنيون الأوروبيون بما يمكن أن يؤشّر إلى توجّه مختلف يدلّل على استقلالية أوروبية في المستقبل. 

فبالتوازي مع التحوّل الأميركي في العلاقة مع روسيا، لم تبحث الدول الأوروبية في كيفيّة تنفيذ انعطافة تقلّل من خسائرها المتراكمة طيلة الحرب، وإنما ذهبت في الأيام القليلة الماضية إلى دعم عبثيّ لزيلنسكي، وفرضت مزيداً من حزم العقوبات على روسيا مع يقينها بعدم جدوى هذا السلوك بعد التخلّي الأميركي الذي تمثّل بقبول ترامب بالاعتراف بعدم استعادة أوكرانيا للأراضي التي ضمّتها روسيا وقبوله بعدم انضمامها لحلف الناتو.  

حتى اللحظة لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي من التغلّب على انقساماته الداخلية وتظهير نموذج متطوّر للعلاقة بعيداً عن البيروقراطية المعقّدة والمثل السوريالية التي قيّد نفسه بها عند نشأته. فالواقع الدولي القائم على تحالفات المصالح والسعي للهيمنة لا يمكن مجاراته من خلال أطر فلسفية لا يمكن الخروج عليها. وعليه، يظهر الاتحاد الأوروبي ترنّحاً في محاولة تطويره لاستراتيجية تضمن له استقلالية في مجال استقلاله الأمني والسياسي بما قد يؤدّي إلى فقدانه لموقعه المتقدّم في النظام الدولي، إن لم نقل سقوطه وتفكّكه.