اغتيال الزّمن المقبل

لا يستطيع الكيان الاستعماري الهيمنة، إن لم يُفلِـح في تمزيق الحياة الثقافية للشعب المُستعمَر.

  • العنف الصهيوني أكثر من عقاب، أو عتاب، أو فورة غضب؛ إنه قرار عقلاني، وتمهيد لمرحلة مقبلة أكثر مما هو إنهاء لمرحلة سابقة.
    العنف الصهيوني أكثر من عقاب، أو عتاب، أو فورة غضب؛ إنه قرار عقلاني، وتمهيد لمرحلة مقبلة أكثر مما هو إنهاء لمرحلة سابقة.

 

1.   منذ نشوء الكيان الصهيوني الوظيفي، وهو يسعى لصناعة القوة العسكرية، مستنداً إلى أسطورة جالوت وداوود! والجيش الذي لا يُقهَر! يجتهد أهل الفكر في تفكيك أسطورة القوة؛ لماذا تحاربنا "إسرائيل"؟ هل لأن للحرب مُحفزاً أيديولوجياً، أمْ استراتيجياً؟ وفي الحالتين، تتجلّى دائماً حقيقة التناقض التناحري. وبحسب حنة أرندت، لا يُعتبر العنف ظاهرة جديدة وليدة اليوم، أو الأمس القريب، وإنَّما ظاهرة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. ودلالات تفسير هذا السلوك تتجسّد في الحرب، كشكل من أشكال العنف، والذي تتخذ أشكالاً ومظاهر أخرى من دون المواجهة التي تخلّف وراءها قتلى! فالعنف الصهيوني أكثر من عقاب، أو عتاب، أو فورة غضب. إنه قرار عقلاني، وتمهيد لمرحلة مقبلة أكثر مما هو إنهاء لمرحلة سابقة. وكما وصفه المؤرخ أنيس صايغ، فـ"إنه تخطيط لمستقبل أكثر منه رداً على ماضٍ"(*). لذلك، لا ضير في التذكير بأن للإرهاب الصهيوني مرجعية رسمية تحكمها عملية الصراع وطبيعته، بصفته صراع وجود، يقوم منذ البداية على معادلة النفي والنفي المضاد، وبفعل الأيديولوجيا والممارسة الصهيونيتين كنموذج فريد في التاريخ، بحيث يتوقف وجود ذات معينة على نفي الآخر، وأن الوجود يكتمل باكتمال نفي الآخر.

 

2.   لا يستطيع الكيان الاستعماري الهيمنة، إن لم يُفلِـح، بسرعة ومهارةٍ، في تمزيق الحياة الثقافية للشعب المغلوب؛ أي بإقناعه بالدونية. ويتحقق المحو الثقافي عن طريق تدمير النسيج الوطني، والمواطنة، والهوية، تمهيداً لنفي الواقع الوطني. وكما كتب فرانز فانون، فالاستعمار إمّا أن يكون منظومة عنف، وإمّا لا يكون. أوّل العناصر المستخدَمة في هذا العنف هو التحطيم المادي للمجتمع المستعمَر. أمّا العنف الرمزي فهو تتويج لآلية التحطيم المادي، وليس المنطلق. شكّلت مكانة المقاومة الثقافية كضرورة في وجه الجهل والخواء والخراب، فكرياً، امتداداً للحرب ذاتها، بأدوات أخرى، فهي ذروة الحرب على الذاكرة! لذلك، كان المثقفون والمفكرون الفلسطينيون في رأس قائمة الاستهداف الصهيوني، من أجل إدراك الاحتلال أن هؤلاء يشكلون، في ثقافتهم، ضمير مجتمع بأكمله، فأرادت "إسرائيل" النيل من حلم كامل، حين رأت في قاماتهم المديدة وعقولهم الوازنة خطراً كبيراً، فقامت الأيادي الصهيونية السوداء باغتيال كل من: غسان كنفاني، وائل زعيتر، كمال ناصر، كمال عدوان، عز الدين القلق، ماجد أبو شرار، عبد الوهاب كيالي، حنا مقبل، ناجي العلي، باسل الكبيسي، وسواهم من شهداء الكلمة والثقافة والفكر، بالإضافة إلى محاولة اغتيال المفكر أنيس صايغ وغيره.

 

3.   من المفارقات أن استعماراً إحلالياً، ذا مرجعية أيديولوجية كالصهيونية، يسير عكس اتجاه التاريخ، من أجل السيطرة عليه، وإعادة إنتاج الواقع ليتلاءم مع الأيديولوجيا، وليس العكس. وممره الإجباري تمزيق الشعب المغلوب، حين يجري وفق تخطيط مدروس لتهيئة الظروف وإزالة العقبات، بدءاً بتدمير النُّخب كمدخلٍ لتطويع المجتمع وترويضه. وكشفت صحيفة "عال همشمار"، عام 1976م، وثيقةً سريّة تحوي تقريراً يشتمل على عددٍ من القرارات، خَطّها موظفون كبار، وتتصل بكل ما يتعلّق بـ "المواطنين الفلسطينيين" في "إسرائيل". اشتُهرت الوثائق باسم "وثائق كينغ"(**)، وهي تمنع قيام مجتمع متماسك، ذي هوية وزعامة وطنيتين، بحيث إن تبلور الانتماء الوطني سيكون عقبة في وجه مخططات "تهويد الجليل". تظهر الوثائق، بشأن المستويات الأمنية المعلَنة قبل السّرية، قيام سلطات الاحتلال بجمع المعلومات عن قادة المجتمع الفلسطيني وتشويه سمعتهم، عبر وسيلة "الاغتيال المعنوي"، وكذلك في المجالَين التعليمي والتربوي، من خلال التحكُّم في عملية توزيع المنح الدراسية، على نحو يُقلّل بصورة ملحوظة عددَ الطلاب العرب للدراسات العليا، وتوجيه الطلّاب العرب إلى المواضيع العلميّة والطبيعيّة بدلاً من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. وهذا التّوجيه يجعلهم أقلّ انشغالاً بالقضايا الوطنيّة (وبالضّرورة أقل قدرةً على الفهم والتحليل).

 

4. الحرب الذكية تكمن في اختيار الهدف الاستراتيجي، من خلال خلع "مسمار التوازن"، وفي التدخل العنفي المادي الذي يجبر المركب على أن يتحرَّك إلى حيث تريد "إسرائيل". لذلك، كان لرئيسة وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، غولدا مائير، قائمة بأسماء قياديين ومفكّرين من أجل تصفيتهم، وسُميّت يومها "لائحة غولدا"، وكان على رأسهم غسان كنفاني. لماذا غسان؟ لأنه مثقف عضوي شامل، وشابّ لم يبلغ من العمر 36 عاماً، والمستقبل أمامه وليس خلفه، ويُقاس عليه ولا يُقاس على أحد، ومتعدّد الأسلحة العابرة لحدود الجغرافيا، وقائد وكاتب وسياسي وروائي وباحث ورسام وإعلامي ومعلّم ومفكر ومقاوم في الموقع الامامي، يقرن الفكر بالممارسة، ويدرك الفارق بين "السطحية" و"الطليعية". اصطدم مع المراهقة الثورية باعتبار أن الثورية ليست جملة ولا موضة ولا كلمة استعارية واستهلاكية، بل الثورية مسألة عضوية «كلّية، لا تتجزّأ». لذلك، طرح السؤال الاستراتيجي: من هو العدو؟ ليجيب بعد ذلك عن سؤاله المنهجي والنقدي: لماذا؟ 

 

5. في مكان آخر، لم تتوقف محاولات ترسيخ مقولة "حتمية الهزيمة"، وإفساح المجال أمام فرض الرواية الزائفة، عبر إقصاء العقل من دائرة الصراع وتوظيفه ضد أصحابه! العقل ينتسب إلى الأكثرية، وهنا يستشفّ العدو خطورته. لذلك، استمر نموذج استهداف "مركز الأبحاث" قبل سنة 1972 وبعدها، حين أُرسل مغلف ملغوم إلى المدير العام للمركز، الدكتور أنيس صايغ، فانفجر عند فتحه، وأصابه الانفجار بأضرار في يديه وعينيه وأذنه. عميد الثقافة ومعلم أجيال من المفكرين والباحثين والكُتّاب، أبرز حراس القضية، ومضة فكرية جامعة، شكّل نموذجاً للعقل العربي قبل العقل السياسي، عقل بحثي نقدي تأريخي ومؤسساتي، عرّاب الموسوعة الفلسطينية، من مبدأ "اعرفْ عدوك". جمع وأرّخ الفكر الصهيوني منذ نشأته. صاحب القواعد المنهجية الصارمة والمحدّدات الأكاديمية والنزاهة الفكرية والأخلاقية. وكل ما تمتّع به من كفاءة، لا يمكن قراءته بصورة مناسباتية، ولا يوضَع في إطار أو قالب محدَّد، أو يقيَّد في حدث أو موقف معين، أو تتمّ قراءته خارج سياقه.

 

6. كان "مركز الأبحاث" أوّل استهدافات العدوان الصهيوني على بيروت عام 1982، بصفته خطراً كامناً وقوة ناعمة، أولاً بسبب قدرته على تحويل العقل الفردي ليكون عقلاً جماعياً، من خلال البحث المعرفي المؤسّسي كأبرز عوامل الاستمرارية والبناء الجذري والتواصل والتأثير في القرار، وثانياً بسبب مدى مساهمة العقل الفاعلة في تراكُم عناصر القوة الاستراتيجية والحقيقتين العلمية والتاريخية، وفعاليتها في عملية الصراع. فكانت سرقة أرشيف الثورة أو الذاكرة المعرفية، لأنها مسمار التوازن في حركة المقاومة الفلسطينية، والذي لا يمكن من دونه التحكُّم في حركة المحرك، وتتحرّك المركبة يميناً ويساراً؛ أي أنها تفقد استقرارها واتِّزانها فقي الطريق، وبصورة خاصة، عند السرعة العالية.

 

7.  لاحقت الرصاصات ناجي العلي. اغتالت أيقونة "حنظلة"، رمزية اللاجئ الذي لا يكبر، منذ أن غادر فلسطين، ولن ينمو إلاّ عندما يعود إليها. جريمة "حنظلة" أنه أعلن استنكاره الشديد لحالة القرف العربي، وهو يشبك يديه خلف ظهره، ولن يلتفت إلى الأمام قبل أن تعود الكرامة العربية، معلناً ان كل مخيم هو "حنظلة"، أيقونة لأحرار العالم. وصار رمزاً ثورياً تحررياً، ينطق باسم القضية، وعلى لسان الإنسان البسيط، يروي للقرّاء سيرة فلسطين، النكبة والمخيم والسجن والمدن والصحف والحرب وبيروت، في خنادقها وفنادقها وقيادتها، والخليج العربي والزعامات المتخاذلة والقيادات المستسلمة والفقراء، حتى استُشهد غريباً في المنفى اللندني البارد. تلميذ غسان كنفاني وابن المشروع الوطني القومي التّحرري؛ مُبدع الخطوط الساخرة، والموقف المبدئي النقدي القادر على صناعة رأي عام ومزاج شعبي. 

 

8. ولم يكتمل المشهد الفلسطيني تاريخياً، من دون الوجوه النضرة لمبدعين شكّلوا وجدان الشعب الفلسطيني وعزيمته، وأدوا دوراً جوهرياً في صياغة هويته الوطنية، وصاغوا نظرية التحرر الوطني والحرية الإنسانية، وصانوا المعنى من السرقة والتزوير، في مواجهة الظلم والظلام والظلامية والجهل والقهر والاستعباد والاحتلال. فالاشتباك الشامل لن يستوي من دون البُعد الثقافي، كمضمون حضاري وإنساني، ولن يستكمل قوام المشروع التحرري إلاّ بعودة المكوّن الثقافي ليُلازم المسار السياسي. 

 

9. لذلك، استهدفت "إسرائيل" من يتمتّعون بالعقول الذكية التي تستشرف المستقبل وتسبق الأحداث التي تراها بعمق وتعقُّل واستباقية. والأخطر من ذلك تلك الشخصيات المقاوِمة للاحتلال وللهيمنة والاغتصاب وقبول العدو، والتي تقف ضد المطامع الصهيونية بصورة عامة. طمس التاريخ و"عبرنة" الذاكرة للاستيلاء الكلي على ذاكرة الضحية الفلسطينية، فالمعركة ستكون عبثية إن كانت فقط بين حق وباطل، أو نيل وصف الضحية في الصراع، وإنما في مواجهة علمية لكل المزاعم الصهيونية بالأدلة. لذلك، استهدفت "إسرائيل" العقول الأذكى والمثقفين والقادة الفلسطينيين من أجل تفريغ الساحة منهم، وتجويف البنى التنظيمية، للهبوط بمستوى القرار إلى سقوف أقل. وسعت للتخلص منهم، وتحيِيد دورهم وتغييبهم، ودفن القضية الفلسطينية وحصارها وخلعها من محيطها العربي، وكتمها عن الساحة الدولية.

 

10. كانت مكانة غسان كنفاني تتقدم على مستوى صناعة القرار، عبر رؤية أكثر نضجاً بالنسبة إلى مسار العمل الوطني الفلسطيني ككل، وخصوصاً بعد الخروج من الأردن! برز لديه الدور القيادي أكثر من أيّ أدوار سابقة أدّاها، في الصعد الفكرية والسياسية والإعلامية (وظلت هذه الرؤية تراودني بإلحاح بعد استشهاده، وتشكل قناعتي بالسبب الذي دعا قادة الاحتلال الإسرائيلي إلى التخلص منه، باعتبار أنهم لم يختاروه ليغتالوه عقاباً على ما كان فعله، بقدر ما كان ذلك استباقاً وإجهاضاً لما كانوا يتوقّعون أن يقوم به... أو بصورة أدق للأمرين معاً. وهذا هو التفسير الذي تزيدني الأيام تمسكاً به وقناعةً بدقته ***). يعني أنه لم يتم اغتيال غسان كنفاني الذي كان، بل غسان كنفاني الذي سيكون، كما رثاه محمود درويش، إذ وصفه بأنه أشبه "بغزال يُبشّر بزلزال"، وهذا الوصف ليس فقط من باب أن أدبه كان يبشّر بالثورة، ويحرّض عليها، عندما نعرف أنه كان يؤسّس الإعلام الفلسطيني الموحَّد، ويمؤسّس الوحدة الوطنية، ويواجه الفكر المضادّ والطفولي والشعاراتي، مؤسِّساً فكرَ التحرر الوطني من الاحتلال، الذي له مصلحة في أن نظلّ داخل أزمات لا خروج منها، سواء كانت أدواتها داخلية أو خارجية. كان القتل استباقياً للثورة المقبلة، وليست الحالية. فـ"نحن لسنا الثورة... نحن مرحلة التحضير للثورة"؛ هي مقولة غسان كنفاني الشهيرة. 

 

11. غسان كنفاني غير قابل للاختزال في مجرد كونه كاتباً أو سياسياً فحسب، لكنه رائد الفكر التحرُّري، حين صاغ الشكلَ الثقافي في المقاومةِ، يُلحّ على طرحه بسبب أهميته، لأنه ليس أقل قيمة من المقاومة المسلَّحة ذاتها. وبالتالي، فإنه ظلّ يرصد ثقافة المقاومة، يحاول استقصاءها، وكشف أعماقها، كضرورة لا غنى عنها من أجل فهم الأرض التي ترتكز عليها بنادقُ الكفاحِ المسلَّح. صحيح أن الاحتلال هو جَذْر المشكلة، والصحيح أيضاً أنه ليست كل الأزمات من صُنع الاحتلال، وأن هناك مشكلات من صُنع أيدينا، من هنا يكون الخلل الذاتي هو الذي يُضعف القدرة على خوض الصراع. فكان غسان كنفاني يرى أن المقاومة هي فعل حياة، وهي الأصل. لذلكَ، إن أردتَ أن تقاوم عدواً فعليك أولاً أن تُخرجه من ذاتك؛ عليك أن تُخرجه منك. وعليك فعل ذلك قبل أن تلوم غيرك. لذلك، رأى بشير أبو منة (****) أن غسان كنفاني «كاد يكون فرانز فانون الثورة الفلسطينية». نتوقّف كثيراً عند هذه الجملة، " كاد يكون... "، باختصار، لأن تصفية المثقف محاولة اغتيال الزمن المقبل! وعن سابق إصرار وتخطيط، لأن الصراع هو سباق مع الزمن المقبل، وكأنه استعجال الإجابة عن السؤال الوجودي: لمصلحة من يَجري الزمن؟ لذلك، كان الفعل عقلانياً واستباقياً من أجل إعاقة التقدم وهندسة القرار، وتوسيع الفجوة بين طرفي الصراع. والحصيلة التي وصلنا إليها هي بسبب تدني مستوى الكفاءة في إدارة الصراع. لكن، صدق سعد الله ونوس في قوله "يستحيل تدمير شعب استطاع أن ينجو بثقافته، وإن الدفاع عن الثقافة الوطنية هو دفاع عن وجود الأمة". فالحق لمن يستحقه، والزمن لمن يملأه!

 

* د. أنيس صايغ، مقال، "الهدف"، في الذكرى الخمسين للنكبة، 15 أيار/مايو 1998، العدد 1281

** وثيقة وضعها يسرائيل كينغ، متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية لدى الاحتلال الإسرائيلي. ويسرائيل كينغ شغل منصبه هذا في الفترة الواقعة بين عامي 1967 و1985.

*** كتاب "مطار الثورة في ظل غسان كنفاني"، ص 158، المؤلف عدنان بدر الحلو.

 **** بشير أبو منة، باحث محاضر في أدب الاستعمار، ومدير مركز الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في «جامعة كنت» في بريطانيا، مؤلف كتاب "الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر".