إلى أين ستصل المبادرة السعودية في السودان؟
غدت المبادرة الأميركية السعودية غير منجزة كغيرها على الأقل حتى الآن، مع أنّ عمرها يناهز شهرين.
قوبلت المعارك الضّارية في السودان بالكثير من المبادرات الدولية، لكن أبرز مبادرة تلقاها الاشتباك الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف نيسان/أبريل هي المبادرة الأميركية السعودية التي انطلقت في بداية أيار/مايو، والتي طرحت 3 مراحل تدريجية تفضي إلى الجلوس إلى طاولة التفاوض.
فعلاً، نجحت الرياض في إقناع طرفي الاشتباك بالتفاوض غير المباشر في جدة. وقد اجتمع المعنيون للتفاهم وتمديد أمد الهدن المتعاقبة، التي لم تكن هدناً صافية من دون خروقات، لكن، وحتى كتابة هذه السطور، لم تفضِ أي من المبادرات الدولية، بما فيها الأميركية – السعودية، إلى أي من النتائج المرجوة التي تطلّع المبادرون إلى الوصول إليها. ورغم صمت المدافع المتقطع والإفراج عن بعض الأسرى لدى قوات الدعم السريع، فإنَّ الاشتباكات تعود لتستيقظ كل مرة.
إذاً، غدت المبادرة الأميركية السعودية غير منجزة كغيرها على الأقل حتى الآن، مع أنّ عمرها يناهز شهرين. ورغم كل ما قُدم في الإعلام من أهمية لهذه المبادرة، فإنَّ اختراقاً لأكثر من مستوى الهدن غير المنضبطة لم يتحقق حتى الساعة، فما سبب ذلك؟
ثمة تعقيدان يعصفان بهذه المسألة؛ الأول هو الطبيعة الجيوسياسية للسودان، التي من الصعب ضبط إيقاعها، مهما كانت قوة الفاعلين الدوليين المبادرين في حلحلة قضايا هذا البلد المنكوب.
ولعل الخليط المُشكِّل لهذه الطبيعة الصعبة في الخرطوم في نفسه غير محلّي محض، بمعنى أن أحد أسباب جعل طبيعة هذا البلد غير ملائمة للهدوء ذي الأجل الطويل هم اللاعبون الدوليون أنفسهم، لأن سرقة الموارد وتشغيل العمالات واللعب على التناقضات أسهل بكثير في ظل احتدام النزاعات العسكرية وتشتت المجتمع بين قتيل وجريح ونازح.
السودان والعراق هما دولتان عربيتان تمثل كل واحدة منهما معادلة صعبة فيما لو استقرت ونمت واستفاد أهلها من ثرواتها ووجهت توجيهاً وطنياً يحفظ أمنها القومي، لكن تشجيع الفاسدين في كلا البلدين هو سياسة الدول الغربية خصوصاً، لئلا يُخلق لهم تحدٍ إضافي يضاهي التحديات التي تواجه الغربيين. هذه الحيثية أضرت بالسودانيين كثيراً حتى قسمتهم، ولا يزال هذا البلد الكبير يحترق بالأزمات في سبيل تقييده أكثر.
أما السبب الثاني، فيتأرجح بين عدم قدرة أميركا والسعودية على حسم الخلافات والمشكلات في الخرطوم وعدم رغبتهما الضمنية في استقرار السودان، وإن كان ثمة مبادرة على الأرض لترطيب الأجواء وصولاً إلى المصالحة.
سبب هذا التأرجح يتلخص في إشكالين: الأول هو الإشكال القائل إن الرياض وواشنطن أصلاً لا تريدان حلاً، وإنهما جزء من لعبة التأزيم التي يستخلص الساسة في الدولتين من خلالها فوائد سياسية، سواء على مستوى النفوذ في القارة السمراء أو على قطع الطريق أمام خصوم المحور الأميركي بتوثيق علاقاته مع دول وازنة -فيما لو استقرت- كالسودان.
هذا الإشكال في هذا التوقيت مستبعد جداً، ذلك أن من غير المطروح تشتيت السياسة الخارجية للرياض وواشنطن تجاه إدارة صراع صعب بغية الحصول على مكاسب قد لا تكون مضمونة، ويصح هذا الخيار فيما لو كان الجبهات الأخرى باردة ومريحة.
أما الإشكال الثاني، فيقول إن الولايات المتحدة الأميركية مشتبكة مع 3 قوى كبيرة، هي الصين وروسيا وإيران على 3 جبهات واسعة، وطابع تلك الجبهات متشعب بين الاقتصادي والجيوسياسي والأمني والعسكري، وبالتالي الجهد الذي تحتاجه واشنطن في لملمة هذه الجبهات في ظل انحسار تدريجي لاستخدام الدولار في التجارة الدولية، يتطلب الكثير من حشد الموارد وضبط التوازنات والاحتفاظ بالقدر نفسه على مستوى تعاطي الحلفاء التقليديين مع القضايا المطروحة.
وبناء عليه، هذا الرأي يذهب إلى أن الولايات المتحدة الأميركية ليست معنية بإشغال نفسها في قضية السودان، ويؤكد أن المصالحة تصب في مصلحتها، وخصوصاً إذا وجدت لها موطئ قدم، والأمر ينطبق على السعودية بنحو من الأنحاء، وهي تنسحب تدريجياً من مستنقع حرب اليمن وتصلح علاقاتها مع جيرانها شيئاً فشيئاً.
الرأي الثاني يحمل دلالات منطقية نوعاً ما، لكنه يعني أن الدولتين غير قادرتين على حسم الصراع في السودان، لأنهما فقدتا الكثير من مزايا القوة والنفوذ، ولعل فشلهما في الوساطة بعد حين قريب سيؤكد هذا الاستنتاج ويرسخه بشكل لا لبس فيه.
وأحد تداعيات ترسّخ هذا الفهم يفضي تلقائياً إلى تقدم خصوم واشنطن أكثر في ساحات عديدة في العالم، كما يفعلون بعد تأكدهم من كلّ حدث يدل على تراجع النفوذ الأميركي.
هذا التراجع يجعل الخصوم التقليديين وغير التقليديين يقتحمون ساحة حلفاء أميركا الراسخين، كالسعودية، فكيف إذا كانت الاثنتان في وضع غير الوضع السابق؟ والدلالة على ذلك هو قبول الرياض بيع النفط باليوان الصيني، وتقديم عروض كبيرة لبكين في سوق العقارات والتكنولوجيا المحلي، كما أنها دُفعت بسبب كل هذه الأجواء للتصالح مع إيران، الأمر الذي يرسم صورة واضحة بأن الوضع الدولي بات مختلفاً في توازناته ومقادير نفوذ لاعبيه.
وبناءً عليه، إن الإجابة عن سؤال: إلى أين ستصل المساعي السعودية في السودان، تكون: يبدو أنها لن تتقدم كثيراً إلا باتفاق المؤثرين الحقيقيين في المشهد السوداني، ومنها دول الجوار الأفريقي، وإن لم يكن كل ذلك كافياً لتبريد ساحة السودان الغارقة في الفوضى.