إدارة مصر لقطاع غزة: الفخ الإسرائيلي ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية

مقترح لابيد ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل التفاف الاحتلال على حقوق الفلسطينيين، وهو محاولة لإعادة صياغة واقع قطاع غزة، على نحو يخدم المصالح الإسرائيلية.

0:00
  • مقترح لابيد ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل التفاف الاحتلال على حقوق الفلسطينيين.
    مقترح لابيد ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل التفاف الاحتلال على حقوق الفلسطينيين.

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ومحاولات فرض واقع جديد يخدم الأجندة الصهيونية، خرج زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، بمقترح يحمل أبعاداً خطيرة، تتجاوز كونه مجرد خطة لإعادة إعمار القطاع.

يدعو المقترح إلى تولي مصر مسؤولية إدارة قطاع غزة مدةً لا تقل عن ثمانية أعوام، مع إمكان تمديدها إلى 15 عاماً، في مقابل تعهّد المجتمع الدولي سدادَ الديون الخارجية المصرية. يترافق ذلك مع تشكيل "قوة سلام" دولية تتولى إدارة القطاع وإعادة إعماره، في خطوة تهدف إلى تدويل القضية الفلسطينية وتحويل غزة إلى مشكلة عربية، بدلاً من كونها جزءاً أصيلاً من المشروع الوطني الفلسطيني.

هذه الطروحات ليست جديدة، بل تأتي ضمن سلسلة من المحاولات المستمرة لإيجاد حلول تكرّس الاحتلال، عبر صيغ متعددة. فبدلاً من تحميل "إسرائيل" المسؤولية عن القطاع، قانونياً وسياسياً، يتم البحث عن جهة عربية تتولى هذه المهمة نيابة عنها.

وبذلك، تسعى "تل أبيب" لتكريس حالة الفصل بين غزة والضفة الغربية، وتفريغ النضال الفلسطيني من بعده الوطني الشامل، وهو ما يجعل هذا المقترح خطوة في سياق أكبر يستهدف تصفية القضية الفلسطينية عبر تفكيكها وتحويلها إلى ملفات إدارية وأمنية، لا علاقة لها بالتحرر الوطني.

إعادة إنتاج الاحتلال بصيغة جديدة

لا يُعَدّ مقترح لابيد، في جوهره، سوى محاولة لإعادة إنتاج الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، بصورة غير مباشرة، وتحميل مصر مسؤولية تأمينه وكبح أي مظاهر مقاومة فيه.

فمنذ انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، بقي القطاع تحت حصار خانق، مع استمرار السيطرة الإسرائيلية على المعابر والمياه الإقليمية والأجواء. لكن المقترح الجديد يمنح "إسرائيل" فرصة في الانسحاب الكامل من أي التزام تجاه غزة، وتحويل المسؤولية إلى مصر، أمنياً وإدارياً، في تكرار لنموذج الضفة الغربية، بحيث تتحمل السلطة الفلسطينية عبء إدارة الحياة اليومية تحت سيطرة أمنية إسرائيلية مشددة.

لماذا يُعد المقترح خطراً على مصر؟

يمثل هذا المقترح محاولة مكشوفة لفرض واقع جديد على مصر، سياساًي وأمنياً، في ظل تعقيدات جيوسياسية تتطلب رؤية متأنية وحذرة لأي دور مصري في غزة. إن تولي مصر إدارة القطاع تعني نقل المسؤولية الكاملة عن قطاع مُدمر إلى القاهرة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد تتجاوز البعد الاقتصادي لتشمل أبعاداً أمنية وسياسية قد تمس استقرار مصر الداخلي وعلاقاتها الإقليمية.

1- محاولة لزج مصر في مستنقع غزة  

يسعى لابيد لتحويل مصر إلى المسؤول الأول عن قطاع غزة، وهو ما يعني تحميلها أعباءً سياسية وأمنية واقتصادية ضخمة، قد تؤدي إلى تداعيات كارثية على استقرارها الداخلي وعلاقتها بالفصائل الفلسطينية، وخصوصاً مع وجود تيارات فلسطينية ترفض أي إدارة خارجية للقطاع.

2- رشوة سياسية تحت غطاء اقتصادي  

  تقديم "سداد الديون المصرية" حافزاً لقبول هذا الدور يعكس محاولة لاستغلال التحديات الاقتصادية التي تواجهها القاهرة. لكن، تاريخياً، لم تبع مصر دورها الاستراتيجي في مقابل صفقات اقتصادية، بل كانت مواقفها تجاه القضية الفلسطينية قائمة على مبادئ راسخة، وهو ما يجعل هذه المحاولات محكومة بالفشل.

3- ضرب المشروع الوطني الفلسطيني  

تحويل إدارة غزة إلى مصر يعني عملياً فصل القطاع عن الضفة الغربية، الأمر الذي يعزز الرؤية الإسرائيلية القائمة على تقسيم القضية الفلسطينية إلى ملفات معزولة، وبالتالي إنهاء أي أفق لحل سياسي شامل يقوم على إقامة دولة فلسطينية موحدة.

4- دور الأنظمة الخليجية في التمهيد لهذا المشروع  

 كشف لابيد أنه ناقش المقترح مع "الأصدقاء الخليجيين" قبل طرحه علناً، وهو ما يشير إلى أن بعض الأطراف الإقليمية قد يكون منخرطاً في محاولات إعادة صياغة الوضع الفلسطيني، وفق رؤية أميركية - إسرائيلية، وخصوصاً مع تزايد مسارات التطبيع التي تسعى لتحييد القضية الفلسطينية كملف رئيس في العلاقات الإقليمية.

تعقيدات واعتبارات استراتيجية

على رغم محاولات "إسرائيل" تسويق المقترح خياراً جذاباً لمصر، فإن الواقع يشير إلى أن القاهرة تدرك خطورة الانخراط في هذا السيناريو، الذي قد يحولها إلى طرف في صراع لا يخدم مصالحها الاستراتيجية.

تدرك مصر أن أي دور في غزة يجب أن يكون ضمن إطار حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وليس مجرد غطاء لتخفيف الضغط عن "إسرائيل"، وتمكينها من التخلص من مسؤولياتها كقوة احتلال.

الرد المصري المتوقع سيكون قائماً على عدة اعتبارات رئيسة:

1- التمسك بالسيادة الفلسطينية: أي مقترح يهدف إلى فصل غزة عن سائر الأراضي الفلسطينية مرفوض تماماً، لأن ذلك يعزز المخططات الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى أزمة إنسانية وليست قضية سياسية.

2- رفض فرض الوصاية على غزة: مصر لا يمكن أن تقبل أداء دور شرطي أمني في القطاع، نيابة عن "إسرائيل"، وخصوصاً أن ذلك سيضعها في مواجهة مباشرة مع فصائل المقاومة الفلسطينية.

3- عدم المقايضة على الدور الإقليمي: تدرك القاهرة أن سداد الديون الخارجية ليس مبرّراً للانخراط في ترتيبات تمس أمنها القومي، أو تقوض علاقتها التاريخية  بالفلسطينيين.

4- التحرك ضمن موقف عربي موحد: مصر تفضل العمل عبر الجامعة العربية والجهود الدبلوماسية الدولية لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بصورة عادلة، بدلاً من الانخراط في ترتيبات أحادية الجانب تخدم "إسرائيل" فقط.

وبالتالي، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو رفض مصر القاطع لهذا المقترح، مع الاستمرار في أداء دور داعم للقضية الفلسطينية، في إطار يتماشى مع المبادئ الوطنية المصرية والتزاماتها الإقليمية.

رفض الهيمنة وتأكيد السيادة الفلسطينية

مقترح لابيد ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل التفاف الاحتلال على حقوق الفلسطينيين، وهو محاولة لإعادة صياغة واقع قطاع غزة على نحو يخدم المصالح الإسرائيلية، مع تجريد الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير.

إن الحل الحقيقي لا يكمن في وصاية جديدة على القطاع، بل في إنهاء الاحتلال، بصورة كاملة، ومنح الفلسطينيين حقهم المشروع في بناء دولتهم المستقلة.

إن المطلوب اليوم ليس مجرد رفض هذا المقترح، بل التحرك الحازم، عربياً ودولياً، لقطع الطريق أمام أي محاولات لتفكيك القضية الفلسطينية، وإعادة ترتيب الأولويات، على نحو يضمن حقوق الفلسطينيين السياسية والتاريخية. إن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وليس إعادة إنتاجه عبر أدوات متعددة، هو الطريق الوحيد إلى تحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة.