أين المفقودين في غزة؟

تجاوز عدد المفقودين في قطاع غزة منذ بدء الإبادة إلى أكثر من 20 ألف مواطن، بين قصف وعدم القدرة على استخراج الجثث، وبين تشوه الجثث والوجوه، أو احتراق الخيام بمن فيها.

0:00
  • في غزة..  الموت في كل مكان.
    في غزة.. الموت في كل مكان.

هاتفني صديقي صابر محمود أبو حسين للاستفسار عن أخيه ياسر (34 عاماً) الذي كان يزورني بشكل دوري عندما يستبد به الجوع، حيث خرج ذلك الشاب قبل شهر متوجهًا نحو مؤسسة المساعدات الأميركية (GHF) في منطقة زيكيم، ولم يعد حتى لحظة كتابة هذه الشهادة.

بعد الاتصال مباشرة، عدت إلى متابعة الأخبار على هاتفي المحمول، وتوقفت عند مناشدة أطلقها شخص على مجموعة إخبارية محلية، يقول فيها: "توجه الطفلان حسن بلال أبو شقفة وحسن علاء أبو شقفة يوم الجمعة الماضي إلى منطقة بركسات حمودة شرق جباليا، ولم يعودا حتى تلك اللحظة، لذلك نطالب المنظمات الدولية والمحلية بالتحرك العاجل والتنسيق لإنقاذهما قبل فوات الأوان". ثم تساءلت بيني وبين نفسي: كم عدد المفقودين حتى اللحظة؟ وهل العدد بالفعل كما تعلن وزارة الداخلية ووزارة الصحة أم أكبر بكثير؟ وما هي الحالة النفسية للعوائل التي لا تعرف مصير أبنائها؟ وعليه كان لا بد من الخوض في غمار هذه القضية التي يجب أن تحفظها الكتب والدراسات والمواقع الإخبارية المهمة لتوثيق الإبادة بشكلها المأسوي، ولا سيما أن جيراني فقدوا الكثير من أفراد عوائلهم من دون أن يعرفوا مصيرهم. 

علمًا أنني شرعت قبل عام من كتابة هذه الشهادة في تسجيل الكثير من الشواهد حول حالات الاختفاء القسري بسبب الاقتحامات المفاجئة من طرف الاحتلال لمناطق قطاع غزة، وقد قرأت ذات مرة على بوابة مدرسة أسماء التابعة لوكالة الغوث في مخيم الشاطئ نداء استغاثة أطلقه أب يبحث عن ابنه الذي لم يتجاوز العشرة أعوام، ويومها أجبت نفسي: "لا بد وأنه استشهد في مكان ما وظلت جثته تحت الركام"، لكن كيف للأب أو الأم أن يقتنعا بذلك؟ وهل سيساورهما الشك بأن هناك لصوصاً يريدون سرقة أعضاء الأطفال أو الإتجار بهم؟ كما حاول بعض المشبوهين من إشاعة هذه القضية لإرباك الجبهة الداخلية، الأمر الذي نفته الجبهة الداخلية في غزة، وكذلك الوقائع على الأرض؟ وهل سيظل الأبوان على قيد الحياة إلى حين معرفة مصير الابن أم سيقضيان شهيدين في جملة الشهداء الذين يموتون كل يوم بالمجان؟ 

وما زلت أذكر كيف أخبرني وسام محمد النجار قبل أشهر، ونحن نجلس في حوش منزلهم المدمر، عن قصة اختفاء أبيه الحاج محمد محمد النجار (73 عاماً)، إذ كانوا جميعًا في جنوب القطاع، وظلوا محاصرين هناك يعيشون نوستالجيا حقيقية أكبر مما تحمل الكلمة من عمق، لكن الرجل الطاعن في الحزن لم يستطع العيش في الخيمة، وقرر ذات مرة أن يعود إلى بيته من دون أن يعلم أبناؤه بخطته، فقط زارهم واحدًا واحدًا داخل خيامهم في منطقة خان يونس ودير البلح ثم فجأة اختفى، ويواصل وسام حديثه ودمعات تطفر من عينيه: "أخبرني بعض الجيران أن أبي قام بوداعهم في الصباح وقال لهم إنه عائد إلى بيته في شمال غزة، ورغم محاولاتهم لثنيه عن ذلك، تركهم ومضى، ولا يعرف أي من أبنائه حتى هذه اللحظة إن كان حيًا أم قتل أثناء الطريق؟ حيث إن وسام، الابن الأصغر لمحمد محمد النجار "أبو رائد" يقول: "أمي تبكي أبي كل يوم، تهذي إن كان بحاجة إلى ماء أو طعام، ترنو ببصرها نحو الأشياء ثم تغيب، تسرح طويلًا ثم تطلق تنهيدة لا تنتهي، تتحسر فيها على رجل كان سندًا ومعيلًا لأسرة باتت ممزقة مع غيابه. 

أما حسام شوقي الغول (47 عاماً) أحد أقاربي الذين جاؤوا من مصر إبان عهد السلطة الفلسطينية، خرج من بيته في منطقة الشمالي بمخيم الشاطئ صباح الثامن عشر من آذار/مارس العام الماضي، متجهًا نحو مقر الصناعة التابع لوكالة الغوث، القريب من الجامعة الإسلامية في مدينة غزة، مشيًا على الأقدام، وذلك لأجل الحصول على خمسة كيلوغرامات من الطحين، ولم يكن يعلم أن قوات جيش الاحتلال قد حاصرت مستشفى الشفاء بعملية مباغتة لم تكن متوقعة، ولم يعد حتى اللحظة. 

تخبرني زوجته أسماء أنه لم يكن في البيت أي طعام وكانوا جائعين لذلك خرج حسام بعد صلاة الفجر بنصف ساعة متوجهًا نحو مقر الصناعة من خلال شارع النصر، ويبدو أنه اعتقل عند مستشفى الشفاء، وربما جرى قنصه خوفًا من اعتباره مقاومًا. لذلك حاولت من خلال الصليب الأحمر الوصول إلى أي معلومة تتعلق به لكن لا أحد يعرف شيئًا عنه، ورغم ذلك فهي ما تزال تعيش على أمل عودته إليها سالمًا، لأنها تؤمن أن هناك المئات وربما الآلاف من المعتقلين الذين يجري الافراج عنهم بينما كانت عوائلهم تعتقد أنهم شهداء. 

تواصل ابتسام الحديث بعدما وضعت يدها على خدها في مشهد سوريالي يوحي بحجم الكارثة وتقول:" كان حسام السند، فهو يعرف كيف يجلب لنا الطعام ويحافظ على بقاء الأسرة بخير، لكننا مع غيابه صرنا ننام جائعين وابني محمد بحاجة إلى طبيب بشكل دائم، بسبب سوء التغذية، ولم نعد نعرف متى وكيف نقوم بتعبئة المياه، فاضطر ابني محمد إلى أن يناضل من أجل الاستيقاظ باكرًا والوقوف في طوابير طويلة كي نقوم بتعبئة أربعين إلى ستين لتراً من الماء فقط، وقد كان حسام يحضر لنا كل يوم مئة لتر بسهولة." 

أما نسرين عطوة عبد النبي (57 عاماً) من مخيم جباليا، والنازحة إلى مدينة غزة منذ عدة أشهر مع بداية عملية عربات جدعون، تتحدث عن اختفاء ابنها الشاب أسامة أحمد عبد النبي (30 عاماً) تبكي ابنها الذي فقدته في كانون الثاني/يناير 2024 عندما ذهب ليتفقد بيتهم بعد وصول خبر مفاده انسحاب "جيش" الاحتلال من تلك المنطقة، لكنه لم يعد، رغم عودة كثيرين من هناك، الأمر الذي دفع بإخوته لاحقًا للمجازفة من أجل الوصول إلى منطقة بير النعجة في جباليا لأجل تبيان جثته إن كان قد استشهد، لكنهم لم يجدوا له أثرًا، لذلك فإن الأم تقول إنها تشعر به، ومتأكدة من أنه لم يمت، وهو على قيد الحياة، لكن الوقائع للأسف توحي باستشهاد الشاب، حيث جرى دفن العديد من الجثث في مناطق متفرقة من قطاع غزة من دون التعرف إلى هوية أصحابها، إضافة إلى المقابر الجماعية التي قام الاحتلال بدفن الشهداء فيها كما جرى مع مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر، بشكل غير آدمي، وبطريقة دفن عشوائية، كأن سكان القطاع ليسوا بشرًا، وما تزال تلك المرأة تعيش حالة انتظار دائم حتى كبرت عشرين عاماً، همًا وكمدًا، ولم تعد تستطيع المشي أو الحركة، وكلما لاح لها طيف شاب غريب اعتقدت أنه ابنها أسامة، والبكاء مستمر كل يوم. 

هناك حالات كثيرة لا يمكن حصرها، حيث تجاوز عدد المفقودين في قطاع غزة منذ بدء الإبادة إلى أكثر من 20 ألف مواطن، بين قصف وعدم القدرة على استخراج الجثث، وبين تشوه الجثث والوجوه، أو احتراق الخيام بمن فيها، وصولًا إلى أعداد الأسرى الكبيرة والتي لم يعلن عن أعدادها بشكل رسمي حسب وزارة الأسرى في قطاع غزة أو حتى عبر جيش الاحتلال.

وأمام حالات الفقد، قرر معظم الفلسطينيين عدم النزوح نحو الجنوب، لأن الموت في كل مكان، حيث لا يوجد مناطق آمنة حسب ادعاء الاحتلال، وكي لا يعيش الناس وجع الحنين مجددًا.