في ذكرى النكبة، عِصيان مدني أم تحرّر وطني

بالرغم من أن غالبية دُعاة اللاعنف والكفاح السلمي ماتوا قتلاً مثل غاندي ومارتن لوثر كينغ وسان جو ست، إلا أن مانديلا وغاندي كانا على حقٍ تماماً وهما يخترعان الحلول المختلفة، منها العِصيان المدني، لأن هذه الحلول تستجيب لطبيعة الصراع الاجتماعي والوطني المُركّب هناك.

بين الحين والحين، وعندما يقترب الوعي الوطني الفلسطيني والعربي من مراجعة التجارب السياسية التي عاشها ومرّ بها والإخفاقات التي لازمتها، ويضع يده على التجربة الفيتنامية وقانون الصراع والوجود التاريخي ممثلاً بخطاب المقاومة ومشروع التحرير والتحرّر والتوحيد، يطوّق هذا الوعي بسيناريوهات مضادّة تُعيد تغذية الأوهام حول سُبُل وطُرُق مسدودة، وتزجّه في نقاشاتٍ وانشقاقاتٍ وسجالاتٍ عقيمة، وهكذا..

فمن الحل المرحلي والنقاط العشر، إلى حل الدولتين، إلى حل الدولة الواحدة، ومن حملات المُقاطعة إلى العِصيان المدني.

وفي كل ذلك، ثمة مَن يضع العرَبة قبل الحصان (أحاديث الدولة والدولتين والحل المرحلي)، وثمة مَن يُقارِب الصراع العربي - الصهيوني وفي القلب القضية الفلسطينية، باستخدام قياس صوَري، شكلي فاسِد لا يُراعي الشروط والسياقات التاريخية الحيّة.

ومن أخطرِ هذه القياسات، ما يُروَّج اليوم مجدّداً حول العِصيان المدني وحملات المُقاطعة كسبيلٍ وأسلوبٍ رئيسي لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني.

والمُفارقة هنا، أن أصحاب هذا السيناريو الذين يخلطون بين التاريخ والماضي، يعودون إلى التاريخ واستحضار نماذج وأفكار مُحدَّدة للبرهنة على اجتهاداتهم، ومن ذلك تجارب جنوب أفريقيا والهند وأفكار تعود إلى ثورو وإلى غاندي، ومن الأزمنة المعاصرة، جين شارب وبيتر أكرمان..

يُعدُّ الأميركي، هنري ثورو، مهندس العِصيان المدني، وهو فيلسوف وأديب فوضوي غنوصي طبيعي، راح يحرّض على فكرة السلطة بحدِ ذاتها، ويُحذّر من الركون إلى وعودها وأوهامها ويرى أن العِصيان المدني بما في ذلك عدم دفع الضرائب والتعامُل مع الجهات الحكومية، هو السبيل العملي لانتزاع الحقوق.

وإذا كان ثورو قد سبقَ غاندي في هذه الدعوة، إلا أنه عزلَ نفسه في غابةٍ وكوخٍ صغيرٍ بعيداً عن الناس، بينما انخرط غاندي في الحركة الشعبية متّخذاً من "تحرير الملح" عنواناً لمعركته ضد الاحتلال البريطاني ونجحَ مع 78 رفيقاً في كسْرِ الخوف الشعبي من الاستثمار بالملح على ساحل داندي.

وسبق لغاندي أيضاً، أن انخرط في الكفاح المدني في جنوب أفريقيا ضد الاحتلال البريطاني نفسه، وهي المنطقة التي ستصبح لاحقاً ظاهرة أخرى من ظواهر العِصيان المدني من أجل الاستقلال، وتستخدم كما الظاهرة الهندية كغطاءٍ لدعوات أخرى في فلسطين التي لاتشبه هذه الظواهر لا من قريبٍ ولا من بعيد.

كانت البداية في نهاية سبعينات القرن الماضي عندما ترافقت ظاهرتان أو دعوتان مع تداعيات فصل جبهات التسوية في أعقاب حرب تشرين، فأما الظاهرة أو الدعوة الأولى، فهي ما عُرِف بالنقاط العشر أو الحل المرحلي، وأما الظاهرة الثانية فتشكّلت على هامشِ حراكٍ شعبي وطني فلسطيني وتبلورت بعد كامب ديفيد في أطروحات للضغط المدني تقدّم بها سري نسيبة ثم خالد القشطيني، وحنا سنيورة.

وستمضي سنوات قبل أن يعلو صوتها مجدّداً بصورة مراوغة أكثر، تتّخذ من تجارب وطنية مثل تجربة غاندي وتجربة جنوب أفريقيا، غطاء ودليلاً لها.

والحق أن هذه الأحداث لم تنطلق كلها من نوايا مُريبة، فبعضها التبسَ الأمر عليه مع خفوتِ ثقافةِ وخطاب المقاومة وقوانينها العلمية ومنها قانون التناقُضات، الأساسي والرئيسي والثانوي، وروافع هذه الدرجة أو تلك من التحوّلات الكميّة والكيفيّة ... إلخ

بيدَ أن الأسوأ من كل ذلك، هو الخلط المُبرمَج بين مُقاربة التجربة الهندية وتجربة جنوب أفريقيا وانتشار كتاب جين شارب "الكفاح اللاعنفي" في مناخات ربيع الفوضى الهدّامة ورؤية الكيان الصهيوني كنظامٍ يشبه الأنظمة العربية.

وفي هذه المناخات أيضاً، اختلطت التناقُضات والشعارات باختلاطِ الشوارعِ والساحات والميادين، واختلط تلاميذ جين شارب وبيتر أكرمان وسوروس وغيرهم من فلاسفة الفوضى والربيع اليهودي، رُعاة وأساتذة الأوتبور وأكاديمية التغيير ونُشطاء التمويل الأجنبي والمجتمع المفتوح، مع المواطنين الذين تربّوا على مُناهضة الإمبريالية والصهيونية والرجعية.

هكذا تحوّلت الحقوق الوطنية  للفلسطينيين والحق القومي للأمّة في فلسطين، إلى حقوقٍ مدنيةٍ  تشعّبت مُقارباتها بين حل الدولة وحل الدولتين.

وانضمّت فكرة التحرير والمقاومة إلى قاموسِ اللغةِ الخشبية، وذهب البعض أكثر من ذلك حين راح ينقل الخطر من دائرةِ العدو الصهيوني باعتبارِ المعركة معه طويلة، إلى دائرة تخدم هذا العدو، وهي دائرة الخطر المزعوم شرقاً، مُستحضِراً ترّهات الماضي كلها حول الفُرس المجوس، عِلماً بأن مؤتمرات هرتزليا الصهيونية هي المطبخ  الحقيقي لهذه الإزاحة المشبوهة.

بالمقابل، فإن ما تغفله السيناريوهات المذكورة عامِدة أو بنوايا ساذجة، أن قضية الفلسطينيين والأمّة ليست قضية حقوق مدنية حتى نُقاربها بحلِ الدولة أو الدولتين، بل قضية تحرّر وطني بامتياز، مُضافة إليها الطبيعة الاستيطانية الإحلالية للمشروع الصهيوني.

وبالرغم من أن غالبية دُعاة اللاعنف والكفاح السلمي ماتوا قتلاً مثل غاندي ومارتن لوثر كينغ وسان جو ست، إلا أن مانديلا وغاندي كانا على حقٍ تماماً وهما يخترعان الحلول المختلفة، منها العِصيان المدني، لأن هذه الحلول تستجيب لطبيعة الصراع الاجتماعي والوطني المُركّب هناك.

فالحُكم العنصري في جنوب أفريقيا والاستعمار البريطاني في الهند لم يُهجِّر غالبية الشعب الأفريقي والهندي الذي كان ضرورياً لهما كشعبٍ مُستعبَد بالإكراه، بينما قام المشروع الصهيوني على فكرةِ الإزاحةِ والإحلالِ البشري، إلى جانبِ عمالةٍ رخيصةٍ ما أمكن وبحدودٍ مُبرمَجة، فضلاً عن دوره الوظيفي على شكل ثكنةٍ سكانيةٍ مُدجّجةٍ بالسلاحِ في خدمةِ الإمبريالية.

انطلاقاً من ذلك وتأسيساً عليه فإن العنوان الأساسي لكفاح الشعب الفلسطيني والأمة ضد هذا المشروع، مُستمَد من الفهم العميق لقانونِ التناقضات في عمومِ المنطقةِ وما يستدعيه من أشكالٍ ملائمةٍ تستجيب لتحدياته، وفي المُقدّمة منها تشخيص الصراع كصراع بين مشروعِ تحرّر وطني قوامه التحرير والتوحيد، كما المشروع الفيتنامي، وبين التناقُض الأساسي الإمبريالي في تجليّاته الصهيونية كموضوعٍ لتناقضٍ رئيسي تناحُري.

ومن القضايا الأخرى شديدة الأهمية في حال الصراع العربي الصهيوني، كما لاحظت دراسات مُتخصّصة للراحلين د. إلياس شوفاني ونزيه قورة، أن بداية العدّ العكسي لاندحارِ المشروع الصهيوني برمّته، هي إطلاق موجاتٍ من الهجرةِ اليهوديةِ المُعاكِسة نحو أوروبا والولايات المتحدة، فالهجرة كانت ولاتزال قوام هذا المشروع وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه عبر الكفاح اللاعنفي أو أي شكلٍ من أشكالِ الحلِ السياسي للدولةِ أو الدولتين.

وقد أظهرت التجربة أن العلاقة كانت طردية بين تصاعُد المقاومة المُسلّحة وبين الهجرة المعاكِسة.