هل للأكراد والأقليات "حق تقرير المصير"؟
الحركات السياسية الانفصالية لا تقتصر على كردستان وكاتالونيا وغيرها حيث يجري الاستفتاء أو تشتد المطالبة بالانفصال وإنشاء دولة "مستقلة"، إنما يبلغ عددها اليوم حوالي 5000 حركة إثنية وعرقية وطائفية تشمل كل بلدان العالم بما فيها كل "الدول العظمى" من الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا. فالدول الكبرى والصغرى تعجّ بالأقليات التي يحدوها حلم وجداني بالتقوقع على نفسها حماية للجماعة الأقلية أو أملاً بأغلبية على رقعتها الجغرافية الضيقة. ومجمل هذه الأقليات هي ضحية أوهام مثالية غير تاريخية زرعتها ثقافة الطبقات السياسية منذ التحوّل التاريخي الكبير من منظومة الأمبراطوريات و"النظام القديم" إلى منظومة "الدولة ــ الأمة".
وكان لا بدّ أن تقدّس الطبقات السياسية الجديدة قيَم دولتها الحديثة بصفتها التعبير الأمثل عن العدالة المطلقة والخير العام لكل مواطنيها وشعوب العالم، ولا سيما في إطلاق شعارات المساواة والحرية و"حق تقرير المصير" وغيرها. لكن شعارات المثُل العليا هي إيديولوجيا من شأنها تغذية الأحلام الوجدانية بما فيها من أوهام وطموحات، وبما فيها أيضاً من أسلحة سياسية واستراتيجية في يد المنظومة الدولية لمحاربة الأعداء والخصوم أو كسب أصدقاء جدد حين تقتضي مصالح القوى النافذة في المنظومة الدولية هذا أو ذاك.
مقولة "حق تقرير المصير" هي بين الشعارات الأكثر التباساً التي واجهتها قوى المنظومة الدولية الممسكة برسم حدود الدول وتفصيلها على مقاس مصالحها واستراتيجياتها. فهذه القوى كانت في عصبة الأمم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تمنع في شرعتها حق الاستقلال وتقرير المصير عن شعوب المستعمرات وعن مناطق أوروبا الوسطى، على الرغم من ذيوع الشعار منذ الثورة الفرنسية العام 1789 في إطار الحريات السياسية والخاصة. فالقوى النافذة في تلك المنظومة كانت تتقاسم استعمار ثلاثة أرباع الكرة الأرضية وتتنافس فيما بينها على استحواذ مناطق الإمبراطورية الهنغارية ــ النمسوية.
ولم يتغيّر الأساس في تأويل مقولة حق تقرير المصير مع إعلان ميثاق الأمم المتحدة العام 1945، كما يشاع لغطاً وفق تأويل الكثير من الحقوقيين والقانونيين المرموقين، بل تغيّرت الظروف والاستراتيجيات في بناء الأمم المتحدة على هوى واشنطن الساعية لإزالة الاستعمار من دون منح هذا الحق إلاّ إذا ارتأت ذلك القوى المسيطرة على الأمم المتحدة. وفي هذا السياق ورد "حق تقرير المصير" في بنود الميثاق (ولا سيما البندين 1 ــ 2) من باب الاحتمال المقيّد بموافقة الدول المسيطرة وليس حقاً ملزماُ. وفي التعبير عن منع حق الشعوب في تقرير مصيرها بأنفسها، تركت القوى المسيطرة على حائط الأمم المتحدة "مسمار جحا" في عدم تحديد مفهومي الشعب والأقليات لكي تقرر هذه القوى بنفسها ما تراه مناسباً لمصالحها الجيوــ سياسية الدولية وقت الحاجة. ولم يجرِ بحث مفهوم الأقليات في الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى العام 1992 حين أقرّت الأمم المتحدة للأقليات حق الثقافة واللغة والدين وحقها بالمشاركة السياسية في قرارات الدولة" وليس حق تقرير المصير.
مبادئ "ولسن" الأكثر تسامحاً في حق تقرير المصير، لم تتطرّق بشكل من الأشكال إلى حق إلزامي كما أوضح رئيس الهيئة الدستورية في الأمم المتحدة وكبير قضاتها "جينميز دو آريشاغا" في أبحاثه (الميثاق ليس ضد الكولينيالية، المجلد الأول، 1978). وعلى قاعدة مصالح القوى المسيطرة في المنظومة الدولية ارتسمت حدود الدول الوليدة من "إزالة الاستعمار" بحيث تقسّمت "الهند البريطانية" مثلاً إلى ثلاث دول "مستقلّة" وبقي إقليم كشمير بؤرة استنزاف دائمة كما بقي على حدود كل دولة متحوّلة من الاستعمار المباشر إلى التبعية والاستعمار غير المباشر، "مناطق متنازَع عليها" وفي داخلها أعراق وإثنيات وطوائف يلتهب حلمها الوجداني بالانفصال.
ولم تكن "إزالة الاستعمار" استقلالاً بحسب الادعاء بحق تقرير المصير، بل بحسب استراتيجيات المصالح بين الولايات المتحدة الصاعدة والامبراطوريات الغربية المنكفئة، مثلما تضاعف عدد الدول "المستقلة" في الأمم المتحدة مرتين لوراثة الاتحاد السوفييتي السابق. فالحركات السياسية السابقة على ترسيم الحدود الجديدة، كان مطلبها تقرير المصير والاستقلال عن الامبريالية الغربية. واستمر معظمها في هذا المسار حتى انهيار حركة التحرر الوطني في منتصف السبعينيات الماضية. ولم يكن مطلب الحركات الاستقلالية الانفصال عن محيطها وعن حدود الدول الوليدة "بإزالة الاستعمار" لزيادة الطين بلّة في حروب بالوكالة فوق رؤوس حركات التحرر الوطني. ولم يخلُ الأمر من بعض الحركات الانفصالية العرقية والطائفية المشبوهة هنا أو هنالك، لكن سمة التحرر العامة هي الاستقلال عن الشمال في أميركا الجنوبية والاستقلال عن الاستعمار الأبيض في أفريقيا السمراء وعن الدول الغربية في آسيا.
بينما كانت حركات التحرر العربي تقاوم حدود سايكس ــ بيكو ووعد بلفور أملاً بدولة موحّدة على وسع الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية، تذهب الحركة الانفصالية الكردية عكس التيار في المراهنة على الاستقلال عن المنطقة بدعم من الدول التي ترسم خرائط تقسيم الحدود أو تمحوها. بل ذهب بعضها للاشتراك في مذابح الأرمن كرأس حربة للسلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فكانت هذه المذابح وبالاَ مأساويا على الأكراد الذين تهجّروا من جورجيا وأذربيجان والشيشان وأبخازيا إثر انهيار "كردستان الحمراء" (1923 ــ 1929) بين أرمينيا وأذربيجان. وفي السياق نفسه تراجعت بريطانيا عن معاهدة "سيفر" العام 1920 وأسقطت مملكة كردستان العام 1922 التي أعلنها محمود الحفيد بعد اكتشاف النفط في كركوك. كما تخلّى ستالين عن جمهورية "مهاباد" المدعومة من بريطانيا والولايات المتحدة، مقابل صفقة نفط مع الشاه. وفي السياق سقطت جمهورية "آرارات" العام 1930 واضطر إحسان باشا إلى الهرب تحت الضغط التركي.
قد يكون للأكراد أسبابهم في إذكاء الوجدان الكردي بأحلام الاستقلال أملا بالعدالة والديمقراطية والمساواة. لكن الأحلام العاطفية لا تسمن الجماعات الكردية ولا تغنيها تداعيات الانفصال عن وبال استبداد الزعامة الكردية على المجموع الكردي، كما تدلّ تجربة برزاني في رئاسة اٌلاقليم، ولا تغنيها تداعيات الانفصال عن ارتدادات لا حصر لها في المنطقة نتيجة تبنّي بعض الزعامات الكردية دور حصان طروادة. فالجماعات الكردية شأنها شأن الجماعات العرقية والاثنية والطائفية هي على محك وقف انهيار حدود سايكس ــ بيكو ووعد بلفور وعلى محك إعادة البناء بالإفادة من تجارب فشل الاستقلال عن مصالح واستراتيجيات الدول المتحكّمة في المنظومة الدولية. وللأكراد في حصيلة عملية البناء ما لغيرهم من حقوق، وعلى غيرهم من الأقليات والأكثرية (وهي في المنطقة أكبر الأقليات) ما على الأكراد من واجبات.