يوم 9 أيلول | سبتمبر ... ذكرى الثورة العرابية المَنْسيّة

الحقيقة أن ثورة عرابي كانت أثراً والبداية العملية لحركة تنوير كبرى قادها جمال الدين الأفغاني وتلاميذه الشيخ محمّد عبده وقاسم أمين وأحمد لطفي السيّد وعبد الله النديم والسيّدة سيزا النبراوي وسعد زغلول وفاطمة إسماعيل شقيقة الخديوي توفيق وإبنه الخديوي إسماعيل ، ثم طه حسين والعقّاد وأحمد أمين والمازني وعلي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم.

صورة أرشيفية

قد يكرّر التاريخ نفسه، ليس طبعاً بنفس الأشخاص ونفس الأحداث، ولكن تتشابه فصول التاريخ،  ونحن هنا نتحدّث عن أول ثورة مصرية في العصر الحديث، وهي الثورة التي قادها الزعيم أحمد عرابي بين عامي 1881 و1882، كان عرابي قائداً للجيش والشعب معاً، كانت ثورته من أجل مطالب شعبية خالِصة، منها عدم التمييز بين المصريين والشراكسة الذين كانوا يتميّزون عن نظرائهم المصريين في الوظائف المدنية والعسكرية، وكذلك كانت الثورة ضد الامتيازات الأجنبية خاصة لبريطانيا وفرنسا، والمطالبة بالدستور والمجلس النيابي، وكلها مطالب يتّفق عليها الجميع، ولكن دائماً المُستبدّون ينكروها أو يلتفون من حولها.

قاد أحمد عرابي أول تظاهرة سلمية شعبية عسكرية إلى قصر عابدين حيث مقرّ الخديوي توفيق، سار أحمد عرابي وخلفه رجال الدين من مسلمين ويهود ومسيحيين على رأسهم شيخ الأزهر وبطريرك المسيحيين وحاخام اليهود، ومعهم طلاب الأزهر والأعيان والتجار وكبار ملّاك الأراضي، كان عرابي يمتطي فرسه، وعندما وصل إلى ميدان عابدين خرج له الخديوي، نزل عرابي عن الفرس وطلب المطالب الشعبية وذلك في يوم 9 أيلول| سبتمبر 1881، ولكن الخديوي توفيق رفض كل هذه الطلبات وقال صائحاً : " لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملْك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا"، وهنا استشاط عرابي غضباً وقال : "لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً؛ فوالله الذي لا إله إلا هو لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم"، وهو الشعر الذي استخدمه المصريون ضدّ الرئيس السابق حسني مبارك، عندما كان يُمهّد الطريق لتوريث ابنه جمال حُكم مصر، فاستلهم الثوّار منذ عام 2005 شعار عرابي، فردّدوا "لن نورّث بعد اليوم"، خاصة في اليوم التاسع من أيلول|سبتمبر من كل عام، حتى انطلقت الثورة المصرية يوم 25 كانون الثاني |يناير 2011، والتي مازلنا نعيش فصولها، وخلاصة القول إن ثورة عرابي كانت ثورة شعبية ساندها الجيش، ونجحت في نيْل الدستور ووصول أول مصري إلى رئاسة الوزارة وهو الشاعر والعسكري محمود سامي البارودي، هذا في الوقت الذي كانت انكلترا وفرنسا تنتظران الفرصة لاحتلال مصر، وراحت انكلترا تزيح فرنسا بالتدريج، حتى تمكّنت من الانفراد بالخديوي، الذي طلب الحماية في الدولة الاستعمارية، وكان له ما أراد من خيانة، وكان لبريطانيا ما أرادت من احتلال لمصر بعد عام واحد من انطلاق الثورة، وبعد أحداث مثيرة وعديدة لا مجال للحديث عنها الآن، دخلت بريطانيا مصر بطلب من توفيق باشا في حزيران |يونيو 1882، وهزمها الجيش المصري في مدينة كفر الدوّار بالقرب من الإسكندرية، ولكن تحالفَ المُستعمرون مع الخديوي الخائِن ومع فرديناند ديليسيبس صاحب فكرة ومدير شركة قناة السويس، فدخل البريطانيون من القناة للتل الكبير حيث حدثت المعركة، التي هُزِم فيها المصريون، هزيمة بسبب الخيانة.

والأنكي هو ما حدث من فتوى عثمانية سلطانية، ففي نفس اليوم بعد عام من ثورة عابدين في يوم 9 سبتمبر 1882 أعلن السلطان العثماني عبد الحميد عصيان عرابي وخروجه من الإسلام، وتم توزيع الفتوى على الجنود والضباط، فانسحب الكثيرون وهُزِم عرابي، رغم أن الشيخ محمّد عليش وهو شيخ الأزهر أفتى بخروج الخديوي توفيق من الإسلام لأنه استعان بأعداء الإسلام ضد أهل الإسلام، ولكن راجت الفتوى العثمانية، ونشرها الإنكليز، ودافع عنها الخديوي وأنصاره، فوقعت مصر تحت الاحتلال البريطاني، حتى تحرّرت أولا عام 1922 جزئياً وصارت مصر ملكية دستورية مع تحفّظات أربعة مشهورة، ثم كاملاً عام 1952 مع ثورة تموز|يوليو بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.

الحقيقة أن ثورة عرابي كانت أثراً والبداية العملية لحركة تنوير كبرى قادها جمال الدين الأفغاني وتلاميذه الشيخ محمّد عبده وقاسم أمين وأحمد لطفي السيّد وعبد الله النديم والسيّدة سيزا النبراوي وسعد زغلول وفاطمة إسماعيل شقيقة الخديوي توفيق وإبنه الخديوي إسماعيل ، ثم طه حسين والعقّاد وأحمد أمين والمازني وعلي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم، وشقيقه مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر ومحمّد فريد أبو الحديد ومعهم شيوخ القرآن الكريم محمّد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمّد المنشاوي ومحمود البنا، ومعهم كواكب الفن محمّد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي وغيرهم كثير كثير يفوق الحصْر، وحمل هؤلاء الأوائل الفكر التنويري الذي قاد للثورة الشعبية الكبرى عام 1919 ، والتي أتت باستقلال جزئي كما قلنا عام 1922، ثم إلى الاستقلال الكامل عام 1952.

ورغم هزيمة الثورة العرابية عسكرياً فقد ظل أثرها باقياً في الحركة الوطنية المصرية، بنفس الفكر التنويري، وهي الحركة  الوطنية التي انضم إليها الخديوي عباس الثاني، ومعه أمير الشعراء أحمد شوقي وغيره، وقام الاحتلال البريطاني بنفي الإثنين إلى الأندلس أو أسبانيا المعاصرة، ولكن ظل فكْر الثورة باقياً حتى اليوم.

وقبل أن نختم هذه الكلمة السريعة، نذكر أن أحمد عرابي حُوكِم ونُفي ومَن معه إلى جزيرة سيلان عام 1882، ظلّ عشرين عاماً هناك وعاد شيخاً ضعيفاً ، تلاحقه الأكاذيب الملكية التي تصفه بالضعف والغباء، ولكن ثورة تموز|يوليو أعادت له كرامته ودرّست سيرته الثورية الحقيقية، وكتب عنه الكتّاب والمؤرّخون مُنصفين له من حُكم الزور التاريخي، وأظهرت تمثاله المشهور راكباً فرسه في مدينة الزقازيق حيث مسقط رأسه، ويكفي أن الشباب المُعاصر استلهم فكرة "لن نوّرث"، ونجحت في طرد حسني مبارك ومعه الوريث، ولن يُسمح بتوريث الحُكم في مصر أبداً...منذ عرابي وحتى الغد ...