"الأب": بين يدي "السير" آنتوني هوبكنز

على عكس باقي الأفلام التي تُحدثنا عن مرض "الألزهايمر" وما يشعر المريض المصاب به، جعلنا فيلم "الأب" نرى ذلك المرض متمثلاً أمامنا.

  •  هذا الفيلم للممثل العظيم آنتوني هوبكنز لم يكن سوى صورة لِمَا بعد الحداثة
    هذا الفيلم للممثل العظيم آنتوني هوبكنز لم يكن سوى صورة لِمَا بعد الحداثة

لطالما كان الفنّ مرآة يرى الإنسان نفسه من خلالها. يرى أجزاء روحه المُبعثرة، وشظايا نفسهِ المصورة. يرى ما يغفل - هو - عن رؤيته في يومه العادي، فكيف ستكون الحياة من غير فن، ومن غير موسيقى تغذي أرواحنا، وسينما تصوّب أخطاءنا؟ كيف ستكون حياتنا من دون ذلك الفن الذي يرتقي بالأفئدة ويرقق المشاعر التي قد تموت ويصير صاحبها مع قسوة الحياة كالجمر المُلتهب الذي يؤذي العابر والناظر، فالفن علاج ومرآة يستعيد من خلالها الإنسان نفسه.

الأب

أحسب - في رأيي - أن فيلم "الأب" لا بد من أن يُدرس من عدة جهات، نستطيع أن نحصرها في نقطتين فقط: 

أولاً، هذا الفيلم للممثل العظيم آنتوني هوبكنز لم يكن سوى صورة لِمَا بعد الحداثة، إذ تغيب المنظومة الأخلاقية وسط مُغريات الحياة المادية، وتسود الغائية الدونية، وترتقي الأنانية لتشمل كل مناحي الحياة. لقد قدم لنا صورة واضحة لذلك العصر، حيث تتوحش الداروينية النيتشوية، ويتحول الأمر إلى التفريق بين القوي والضعيف أو الذكي والغبي، بدلاً من التفريق بين الخير والشر، فيصير من ليس له قيمة أو منفعة مادية في حُكم الميت الحي. وقد قال في ذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري في إحدى محاضراته: "إن الألمانيين النازيين كانوا يتخلصون من كبار السن بعملية الإحراق. أما اليوم في الغرب، حيث يسوده عصر ما بعد الحداثة، صاروا يقضون على كبار السن بعملية التبريد، أي أنهم يلقون بهم في دار المُسنين إلى أن يوافيهم أجلهم".

ثانياً، على عكس باقي الأفلام التي تُحدثنا عن مرض "الألزهايمر" وما يشعر المريض المصاب به، جعلنا فيلم "الأب" نرى ذلك المرض متمثلاً أمامنا، ولكن من منظور المريض، فيجعلك تشعر حيال الفيلم بأنك أنت المشوش والمريض، وقد تشعر بالقلق والانزعاج عدة مرات من تتابع الأحداث غير المُترابطة وتكرار الكلام وظهور بعض الشخصيات واختفائها، من دون أن تعرف هويتهم ووظيفتهم، كأنك أنت المريض، وليس آنتوني هوبكنز فحسب.

الغاية

لو سألت كل من شاهد الفيلم عما علق في ذهنه، فإنه سيشير بكل تأكيد إلى أجزاء شديدة الرومانسية في السياق الدرامي، كاهتمام آنتوني بالساعة لتحديد الوقت، وخصوصاً حين قال: "كان لدي دوماً ساعتان؛ واحدة حول معصمي، والأُخرى في رأسي"، لكن الساعة الموجودة في رأسه صارت مشوشة، وكذلك الجزء الأخير من الفيلم، حين انطلق باكياً مثل الأطفال في فطرتهم الأولى حين يناجون أمهاتهم، بحثاً عن الملاذ والأمان لديها. يعود الممثل بدوره ذلك الطفل، بعد أن نسي كل شيء - حتى نفسه - باستثناء أمه. ظل يتذكرها كأنه يراها أمامه، وأخذ يُناجيها أن تضمّه، لأنه في أشد الحاجة إليها، حتى تعود به إلى بيته، حيث ينتمي، بعد أن تخلى عنه الجميع.

ثمة مشاهد تعكس لنا شعور مريض الألزهايمر وإحساسه بالخطر الداهم، فيجعله يشك في كلّ من يحيط به، باحثاً عن أي مأمن في أي شخص قد يثق به، ولو بشكل طفيف. أما المشهد الأعظم - بحسب رأيي - فهو المشهد الأخير، أثناء انهياره باكياً مما يحدث له، وهو لا يعرف ولا يفهم ولا يعي ما يحدث، حين يقول للممرضة في دار المُسنين: 

"أريد العودة إلى منزلي. أشعر كأنني أفقد كل أوراقي وأغصاني.. بسبب المطر والرياح. لا أعلم ما الذي يحدث بعد الآن.. هل تعرفين ما الذي يحدث؟ ليس لدي مكان أضع رأسي عليه بعد الآن، لكنني أعلم أن ساعتي على معصم يدي.. من أجل الرحلة".

تلك الجملة لخصت كل ما يُعانيه مرضى الألزهايمر في رحلة الحياة والمرض، وهو يشعر بشيء غريب.. كأن شيئاً ما يضرب رأسه، ولكنه لا يعرف ماهيته بالتحديد. يستطيع أن يصفه فقط، ولكن لا يستطيع أن يُحدده. لا يعرف شيئاً إلا أنه ليس بخير.

"السير" آنتوني

ليس لمثلي ولا لغيري التعليق على أداء "السير" العظيم، ولسنا في صدد الحديث عن عظمة الدور الذي سلب تلافيف عقل المُشاهد، فآنتوني هوبكنز أعظم من أن نشمله في مقال أو رأي أو قول، وخصوصاً بعد ذلك الدور، ولكن ما لفت أنظارنا هو ذلك التشابه بين آنتوني الممثل وآنتوني الشخصية، فاسم الشخصية في الفيلم هو نفسه اسم الممثل، كذلك العمر ذاته، والميلاد، والبلاد، كأنه يضع نفسه في رحله إنسانية يُلقي من خلالها تحية على أصدقائه وأقرانه الذين بلغوا من العمر عتياً، ويذكّرنا - نحن الشباب - بواجبنا نحوهم، وبأن علينا العودة إلى منظومتنا الأخلاقية واستذكارها، ولو تطاولت علينا الحياة المادية بأعبائها المرهقة التي جعلتنا نستعبد مَن حولنا بعد أن استعبدنا أنفسنا لها.

يحق لنا القول إن "الأوسكار" فازت بآنتوني هوبكنز، وليس العكس. وليس بوسع من يُشاهد الفيلم إلا أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أرذل العمر".