وباء كورونا والحاجة الملحّة إلى إعادة بناء العلاقات الاجتماعية
أصبحت العلاقات الاجتماعية رهينة المصالح الاقتصادية، وتسودها البراغماتية والحسابات ومنطق "رابح رابح"، وافتقدت النواة الصلبة الأبدية التي تمنحها الحس الإنساني والمودة الخالصة.
من نافلة القول إن فيروس كورونا المجهري اخترق تفاصيل النشاط البشري من خلال تأثيره في أداء الحكومات وردود فعلها واستمرارية نشاط الدورة الاقتصادية بجميع حلقاتها، وفي تماسك النسيج الاجتماعي لمختلف المجتمعات. ثمة حاجة ملحة لإعادة تحديد الأولويات على مستوى التوجهات الاقتصادية والخيارات السياسية والتحالفات الاستراتيجية والتدبير المعيشي للأفراد.
هناك نزوع نحو إعادة بناء العلاقات الاجتماعية بعد تصدع مجموعة من الروابط الاجتماعية وسقوط أنساق علاقات كانت في الأمس القريب بمثابة المقدس اللامفكر فيه. كم من تجربة زواج انتهت بمجرد ظهور الوباء؟ كم من صداقات تلاشت كشظايا متناثرة وكأنها لم تكن قائمة يوماً ما؟ كم من مشاريع علاقات اجتماعية تم وأدها في المهد بعد ظهور الفيروس المتمرد؟
لا غرابة في ما يقع من زلزال في صلب العلاقات الاجتماعية وما يعرفه النسيج الاجتماعي لبعض المجتمعات من تآكل وتمزق، باعتبار مجموعة من المعطيات التي تستحق التدبر والدراسة.
انشطار العفوية والتلقائية والحميمية عن النواة الصلبة للعلاقات الاجتماعية
أصبحت العلاقات الاجتماعية رهينة المصالح الاقتصادية، وتسودها البراغماتية والحسابات ومنطق "رابح رابح"، وافتقدت النواة الصلبة الأبدية التي تمنحها الحس الإنساني والمودة الخالصة.
في الحقيقة، تُؤسس العلاقات الاجتماعية على أساس متغير ومتقلب يتمثل في المصلحة الاقتصادية والمنفعة الفردية، إذ تُوجَّه بوصلة بناء العلاقات بحسب تغير منحى المصالح والغايات الفردية. جُرّدت، إذاً، ماهية الروابط الاجتماعية من براءتها، وحملت بالأطماع والهواجس الغرائزية، وغدت ارتزاقاً لا يقل نذالة وضرراً عن ارتزاق المثقفين والوصوليين من سماسرة السياسة. للأسف، ما يجري في السياسة، وعلى مستوى جيوستراتيجي، يقع الآن في قلب المعاملات والعلاقات الاجتماعية.
إنها بيئة ما يعرف بالكائن الاقتصادي، وهي نتاج عملية تفريغ الكائن البشري من محتواه الإنساني وذخيرته الروحية وتوغل الممارسات الرأسمالية المتوحشة وسيطرتها على الإدراك والسلوك والتوجهات.
سطوة نشاط الغرائز البدائية
كشف قدوم فيروس كورونا المستور، واستطاع أن يسبر غور أعماق النفوس البشرية، واستفز ما فيها من غرائز الأنانية والجشع والخوف التي لا تألو جهداً في إعادة المكبوت إلى الظاهر وإحياء الرغبات الدفينة من أجل السطو على الوعي الجماعي وتوظيفه في إدراك الطموحات اللامتناهية. من المؤكد مع سيادة أساليب الإغراء والتنافس نحو الاغتناء المادي، أن الممانعة الذاتية أصيبت بالوهن واستسلمت لسلطة الشهوات والنزوات وتقلبات المزاج.
أزمة قيم
قد يقول قائل إن المصلحة والمنفعة كانت دائماً حاضرة في منظومة العلاقات الاجتماعية، ولم تستثنِ مجتمعاً أو زماناً بعينه. نعم بكل تأكيد، لكن أن تصبح هي الغاية والمحرك الوحيد في عملية تشكيل الروابط الاجتماعية، حينئذ نشهد احتضار كل ما هو إنساني ونبيل.
إننا نعيش شيوعاً للتفاهة بكيفية بشعة للغاية، حيث يبخس كل ما هو جميل وعميق وهادف، ويُمجّد كل ما هو سطحي وتافه. إن متابعة الإعلام العربي ومعاينة الأنظمة التربوية في المنطقة العربية تبرزان، وبجلاء، توجهات صناع القرار في الذهاب بعيداً في تفريغ السياسة والثقافة والاقتصاد من المحتوى، حفاظاً على الكراسي والامتيازات. كيف نستغرب إذاً عمليات تدمير الأسرة، والنيل من وقار القدوة، وازدراء أدبيات سمو المعاملات وفضائل الأخلاق، مقابل الترويج بإدراك أو من دون إدراك للفهلوة والزبائنية والوصولية والمكر؟
هوس تحقيق الغايات بغضّ النظر عن نوعية السبل
لا تهم نوعية السبل المتبعة ما دامت الغاية محمودة عند السواد الأعظم من الناس. هناك دعوة للتكيف مع التطور ومتغيرات العصر والمستوجب الانفصال عن القيم والأفكار البالية من وفاء والتزام وأمانة وشهامة، والتي لا تقدم أية قيمة مادية مضافة، وإنما ينظر إليها من باب إهدار الوقت والجهد وإطالة الأمل. هناك خبل في المفاهيم ومكر في استعارتها، فهل تحيل العقلانية والواقعية مثلاً إلى الارتزاق والفهلوة؟
فشل إسهامات المجتمع المدني في تقوية العلاقات الاجتماعية
مهما كانت إسهامات المجتمع المدني، فإنها لم تنجح في النهوض بالدور الذي أدته بعض الأعراف المتوارثة في حفظ استمرارية العلاقات الاجتماعية الإنسانية الصرفة، وخصوصاً أن مؤسسات المجتمع المدني تبقى عموماً خاضعة للمصالح السياسية وتفتقد الاستقلالية. من هنا، نطرح السؤال التالي: كيف يمكن مأسسة العلاقات الاجتماعية من دون النيل من عفويتها وطبيعتها الودية والحميمية؟