ترامب وماكرون.. من سياسة الأوهام إلى سياسة الخراب!

سباق نحو عودة فرنسا إلى قيادة أوروبا، من خلال مأساة لبنان، بعد أن غرقت في الفشل السياسي داخلياً وخارجياً.

  • ترامب وماكرون في مؤتمر صحفي مشترك خلال قمة مجموعة الدول السبع الكبرى في باريس عام 2019 (أ.ف.ب)
    ترامب وماكرون في مؤتمر صحفي مشترك خلال قمة مجموعة الدول السبع الكبرى في باريس عام 2019 (أ.ف.ب)

من الواضح أن دونالد ترامب خسر كل حروبه بكل أشكالها وألوانها في الشرق الأوسط وآسيا، وكل حلفائه، وكذلك ماكرون، إذ تراجع نفوذ فرنسا في عهده في أغلب مستعمراتها القديمة، وخسر محاولته العودة من بوابة ليبيا، ولم يعد أمام الاجتياح اللاأخلاقي لتركيا ومن معها لليبيا، إلا مجرد صوت فارغ في تشابك دولي معقَّد.

من هنا، يمكننا البحث في ما حدث في مرفأ بيروت وما يحدث في بيلاروسيا، وبالتالي لا بد من تفكيك بعض الألغاز، الظاهر منها وغير الظاهر، إذ يبدو أن هناك ألغازاً في بعض المواقف الدولية، تمارسها أطراف عدة، سواء في إطار صراعها ضد بعضها البعض أو غيره.

الكل يتآمر تحت غطاء البحث عن سبب الانفجار في مرفأ بيروت، والهدف واضح. إنها المصالح التي يسعى إلى تحقيقها كل طرف، وفق ما يعرف بالحروب الملونة أو حرب الفوضى الخلاقة أو حرب المساعدات المالية.

لبنان حصن حزب الله المنطقة الحيوية والموقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط هو الأهم في هذا الصراع. ومن الواضح أن أميركا والغرب لن يتخلوا عن "إسرائيل"، وبالتالي من المرفوض هزيمتها، لأنها واقعياً تمثل لهم القاعدة العسكرية الأمامية، فضلاً عن كونها الفضاء الاستراتيجي المهم لهم سياسياً واقتصادياً... 

هذا الاهتمام المدعوم بالفوضى أو بالحرب السرية، كما حدث في انفجار مرفأ لبنان، الهدف منه فرنسياً هو العودة إلى النفوذ التاريخي لفرنسا في المنطقة. ومهما تكون نتائج التحقيق، فإن للغرب و"إسرائيل" يداً في ما جرى للمرفأ ولكن لماذا كل هذا الاهتمام السياسي الأميركي الفرنسي بالحادث؟

إن واقع هاتين الدولتين الحالي يفرض ذلك، وهما تعانيان من أزمات حادة اقتصادية واجتماعية، بل إن أميركا على حافة الانهيار، كما يؤكد الكاتب الأميركي نعوم تشومسكي، وكما تؤكد سياسة التضليل التي يمارسها ترامب، والتي أطاحت بكل القيم فيها، فضلاً عن العزلة الدولية التي تلاحق أميركا بسببه.

وقد اتضح ذلك في اجتماع مجلس الأمن الأخير، إذ لم يجد ترامب من يقف معه سوى جزيرة الدومينيكان، ما يعني عزلة دولية مطلقة حتى من حلفائه التقليديين، ثم إن الفشل الذي يلاحقه دفعه إلى تكثيف العقوبات الاقتصادية، ولو كانت عقوبات تعيد أميركا إلى العصور الوسطى سياسياً.

ونتيجة لهذه الفوضى التي يمارسها، أصبح يشك مسبقاً حتى في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويرى أنها ستكون مزورة، ما دفع به إلى السعي لاختلاق المشاكل الوهمية ضدها. 

يقول موقع "ميدل إيست" إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسعى بأي طريقة ممكنة لمنع الأميركيين من التصويت بطريقة منظمة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، فإذا شارك عدد كافٍ منهم في التصويت، فسيخسر منصبه، بحسب تقييمات الاستطلاع الحالية.

وتقع فرنسا في المأزق نفسه أيضاً، فشعبية ماكرون في الحضيض، ولم يعد يقبل به أيضاً أعضاء من حزبه المؤسس حديثاً، فضلاً عن احتجاجات أصحاب السترات الصفر وغيرها، ثم إن جائحة كورونا عرت فرنسا من الداخل، سواء على مستوى حقوق الإنسان أو على مستوى المساواة بين البيض والسود. يضاف إلى ذلك الانهيار الاقتصادي الذي يلاحق المؤسسات الفرنسية بسبب كورونا، فأغلب مصانعها عاجزة عن مواصلة العمل، وشركة طيرانها (أير فرانس) لحقتها خسائر بمئات الملايين.

هذا الجو العفن دفع ماكرون إلى العودة إلى تسريع سياسة الاحتواء بالقوة، والتي بدأها ساركوزي من ليبيا (سياسة الاستعمار، لكن بشقيها السياسي والاقتصادي).

إذاً، حروب بأوجه اقتصادية تلد أخرى بأوجه استعمارية، والفاعل مجهول بالمفهوم الاستهلاكي للسياسة، وللسياسة فقط.. من هنا، إن ما حدث في تفجير مرفأ لبنان ليس عفوياً بالتأكيد، وتأكيدنا يأتي بناء على ما عرف بالحرب السرية التي باشرتها أميركا في كثير من الدول، فالقضية وما فيها المقصود منها حزب الله، وكل ما يعرف بمحور المقاومة، لكن الإهمال المتعمد أيضاً ليس بعيداً من الحدث.

لكن الأكثر من ذلك أن فرنسا مساهمة أيضاً بشكل ما، انطلاقاً من موقفها المعادي لحزب الله وسوريا منذ اتفاق شيراك بوش (حزيران/يونيو 2004)، وزيارة ماكرون العاجلة للبنان تؤكد ذلك، فالسرعة التي جاءت بها زيارته توضع في خانة الاستفهام.

حزب الله الذي أيقظ العالم على مبدأ المقاومة، أصبح صوته عالمياً تهابه "إسرائيل"، وترى فيه الخطر الحقيقي على وجودها، بل ليس باستطاعتها أن تقوم بحرب في المنطقة بسبب قوة الردع أو توازن الردع لديه.

لقد امتد صوته إلى داخل بعض الدول الغربية ذاتها، وقد فهم الغرب كله أن لبنان بحزب الله أصبح يمثل العالم الحر، بخلاف الغرب الذي كشفته الانتفاضات الداخلية على حقيقته، من عنصرية فاحشة، وإهدار لحقوق الإنسان بشكل مأساوي، يضاف إلى هذا الموقع العسكري المتنامي لإيران، بل وتحديها لأميركا، حيث أضحت تواجهها، وترسل سفنها في تحد صارخ إلى فنزويلا، رغم الحصار المفروض عليهما، وتحجز سفينة بريطانية، ولم تتركها إلا بعد أن تحققت مطالبها. 

هذا التحدي بالتأكيد هو ما لا يريده الغرب وأميركا والسعودية أيضاً، لأنه يشكل الخطر الأكبر على مصالحهم، وحتى على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة (القواعد العسكرية)، وهو بالتحديد ما تخشاه أميركا أيضاً. 

لقد أصدر ترامب قانون "قيصر" لمعاقبة سوريا ظاهرياً، وهو على مستوى الفعل أيضاً يأتي لمعاقبة شعب لبنان. واعتقد أن لبنان بتعدده الطائفي والحزبي قابل للاشتعال بإشعال الحرائق فيه، لكنها رؤية هشة، فلبنان الثقافة والحضارة والتاريخ وحزب الله غير ذلك، وذلك ما لم يهضمه لا الغرب ولا أميركا، وبالتالي فهما شريكان في الجريمة... 

إذاً، إن زيارة ماكرون للبنان في المعلوم. أما "المجهول فهو الأداة والتنفيذ"! هو سباق نحو عودة فرنسا إلى قيادة أوروبا، من خلال مأساة لبنان، بعد أن غرقت في الفشل السياسي داخلياً وخارجياً، ومطالبته بتنفيذ الإصلاحات وفقاً لشروط صندوق النقد الدولي قبل أيلول/سبتمبر المقبل، وهو موقف السعودية القديم الجديد أيضاً.