"فرّقْ تسُدْ".. لماذا فشلت في لبنان ونجحت في العراق؟
الغرب لا يريد تفتيت الطوائف فحسب، بل تفكيك معنى المقاومة له وتحويلها من قضية وجودية إلى جدل سياسي يُستنزف في الإعلام والنقاشات غير المثمرة.
-
حزب الله حوّل السلاح إلى وعي شعبي وذاكرة تحرير (أرشيف).
لم تكن سياسة فرّق تسدْ شعاراً رومانياً قديماً وحسب، بل صارت نظام تشغيل كاملاً للعقل الاستكباري، تقسيم المجتمعات، تذويب الهويات، تسليع الذاكرة (تفكيك الذاكرة المقاومة كذكرى عاشوراء، الانتفاضات، الاحتلال، المجازر عبر تسليعها، أي تحويلها إلى مجرد ذكرى سنوية أو احتفالية دينية تُستهلك في الإعلام وتُفرغ من مضمونها الثوري والوجودي)، وتحويل المقاومة نفسها إلى ملف نزاع داخلي.
الغرب لا يريد تفتيت الطوائف فحسب، بل تفكيك معنى المقاومة له وتحويلها من قضية وجودية إلى جدل سياسي يُستنزف في الإعلام والنقاشات غير المثمرة.
هوية تصهر الطوائف...
في لبنان اصطدمت هذه السياسة بجدار فولاذي وهوية أمة اسمها المقاومة، فحزب الله لم يترك السلاح في خانة الأداة العسكرية فقط، بل حوّله إلى وعي شعبي وذاكرة تحرير، فمَن عايش مجازر قانا والاحتلال الإسرائيلي والتهجير لم يعد يرى السلاح خياراً سياسياً، بل شرط حياة وبقاء، لهذا فشلت اللعبة الطائفية والاقتصادية، لأن الطوائف نفسها ذابت في ذاكرة جماعية صاغتها معارك التحرير من بيروت إلى الحدود الفلسطينية المحتلة.
الحشد... معركة الداخل...
في العراق، الاستهداف لم يكن للسلاح مباشرة بل لهيئة الحشد الشعبي وللقانون الذي يمؤسسها، بشكل يأخذ الهيكلية النظامية لمؤسسات الدولة، وهنا، الأميركيون فهموا أن أخطر ما يهددهم ليس سلاح المجاهد في الميدان فقط، إنما هو تشريع يحول الحشد إلى هوية رسمية داخل الدولة، لذلك جمعوا الضغوط؛ والانقسامات السياسية، والابتزاز بالدولار، والتهديد بالعقوبات، إضافة إلى إثارة الحساسية الكردية السنية.
لكن الخطر الأعمق لم يأتِ من واشنطن وحدها، بل من الداخل، فالجمهور العراقي فقد الثقة بأغلب القوى السياسية الإطارية التي رفعت شعار دعم الحشد الشعبي، ثم مارست نفس سلوك القوى المعارضة له أو الخاضعة للتهديدات الأميركية، وهنا صار المواطن والمتابع وحتى المراقب العارف، عاجزاً عن التمييز بين من هو المؤيد الحقيقي للحشد كقوة عقائدية وطنية، ومن هو المستغل له شعاراتياً بمفاهيم رنانة جوفاء.
اقتصاد مكشوف... سيادة مرهونة...
في لبنان، الحصار المالي والضغط الاقتصادي امتصه المجتمع وحوله إلى وعي ضد العدو الصهيوني ( يهودي – مسيحي – مسلم... )، في العراق الاقتصاد ظهر أكثر تماسكاً ونمواً، لكن شريان حياته يتحكم فيه الرئيس الأميركي بحسب الأمر التنفيذي الرقم 13303 الذي صدر في 22-5-2003 من قبل الرئيس الأميركي جورج بوش، وما زال مستمراً لغاية اليوم، والذي صدر معه في نفس اليوم قرار مجلس الأمن الرقم 1483، والذي حوّل القوات الأميركية والبريطانية إلى قوات محتلة؛ ما يجعل الدولة أكثر انكشافاً، فصار التلويح بقطع الرواتب أقوى من التلويح بالصواريخ الأميركية.
لذلك فإن القائم بأعمال السفارة الأميركية، لا يهدد فقط بالعقوبات بل يزرع الخوف في قلب السوق والمواطن معاً، والنتيجة حرب إعلامية نفسية جعلت من التهديدات الأميركية البريطانية التي في جوهرها رغبات إسرائيلية خالصة، تمر من دون أن نرى موقفاً سياسياً معلناً منها، أو تظاهرات شعبية عارمة دفاعاً عن الحشد وقوانينه، والأسوأ أن نرى مؤيدي الحشد من القيادات يلجأون إلى عدوهم وعدو الحشد لتمرير رسائل لجمهور الحشد وتبرير صمتهم المخزي.
هناك عز وفخر... هنا شك ومساومة...
في لبنان حين حاولوا نزع سلاح المقاومة ظهر الشيخ نعيم قاسم ولوّح بحرب كربلائية، وبعده وقف نبيه بري وحوّل مفهوم الحرب الكربلائية إلى قاعدة ذهبية " سلاحنا عزنا وفخرنا " فتحول الثنائي إلى واحد، أما في العراق فلم نرَ شخصية قيادية كاريزمية - خصوصاً من تلك الموضوعة في قائمة الإرهاب الأميركي - تخرج إلى الجمهور وتتحدث بوضوح وصراحة للدفاع عن قانون الحشد أو للرد على التهديدات، بل رأينا انقساماً داخل البيت الشيعي نفسه وضبابية في الموقف وصمتاً حكومياً مخجلاً حتى على المستوى الرمزي، هذا الواقع سمح للعدو الأميركي البريطاني أن يعمق الشكوك ويصوّر القانون وكأنه مجرد ورقة مساومة سياسية اقتصادية فقط لاغير.
الحشد ومعركة المعنى...
في لبنان فشلت أميركا لأنها وجدت اندماجاً نووياً مطلقاً بين السلاح والهوية، في العراق لم تنجح لأنها أذكى، بل لأن القوى التي كان يفترض بها أن تحصّن الحشد الشعبي تصرفت كما لو أنها نسخة أخرى من أعدائه، ترددت، رجفت، خضعت أو تاجرت بالشعارات، وبالنتيجة تراجعت.
هنا يكمن جوهر الاستراتيجية الأميركية، فهي لا تريد فقط تعطيل القانون، بل تريد أن تزرع في وعي الشعب العراقي أن الحشد الشعبي كله، وليس قانونه فقط، ملف ملتبس، وأنه لا يختلف في الاستغلال السياسي عن غيره من الملفات الأخرى، وفي الجوهر هي تشن حرباً على المعنى العقائدي للحشد، لا على وجوده أو سلاحه فقط.
معركة الهوية المؤجلة...
نجاح سياسة فرّق تُسدْ في العراق ليس انتصاراً دائماً، بل هو تأجيل لمعركة الهوية، فإذا لم يتحول الحشد إلى روح أمة وهوية تعلو فوق التجاذبات، فإن الاستكبار سيبقى قادراً على استنزاف العراق سياسياً واقتصادياً ونفسياً، أما إذا ولد خطاب موحد تتبناه كاريزما قيادية صريحة وموقف إطاري شجاع، إضافة إلى تأييد شعبي يُرى في الشارع، فإن المعادلة ستنقلب كما انقلبت في لبنان.
المعركة لم تُحسم...
نحن هنا لانجري مقارنة بين لبنان والعراق، بل بين هوية اكتملت وهوية ما زالت في أطوار التبلور؛ في لبنان تحول السلاح إلى عقيدة ووعي شعبي، بوجود قائد منبثق منهما، لذلك فشل الاستكبار هناك، أما في العراق، فقد بقي القانون في مرمى التجاذب وضبابية القوى المؤيدة وتأييد شعبي مقيد بعدم الثقة ببعض المتصدّين للقضية، هذه العوامل وغيرها هي الثغرة التي نجح العدو الأميركي -البريطاني -الإسرائيلي في استغلالها.
وبما أن معركتنا مع الصهاينة ما زالت معركة نقاط فإن العدو الأميركي قد يربح جولة اليوم، لكنه يقينا سيخسر المعركة غداً، والسؤال لم يعد؛ هل يُقَرّ قانون الحشد أم لا، بل هل يُبنى الحشد كروح أمة وهوية لها، أم يبقى ملفاً يساوم عليه الساسة.