في ذِكرى وفاة المُفكِّر المغربي محمّد عابد الجابري
عاش في الماضي، لكنه ظلّ حاضراً بما خلَّفه من إرثٍ حركي يكتسي راهنيّة عجيبة، ويفتح الآفاق لورش عمل مُستقبلية.
ربّما يحسّ القلم بالحنين والكلمات بالاعتزاز عند الحديث عن المُفكِّر المغربي الراحِل محمّد عابد الجابري. في الحقيقة، من الصعب الإحاطة بعوالِم الرجل، إذ كلَّما حاولت سَبْر أغوار أحد عوالِمه، وجدت نفسك، ومن دون إدراك، في قلب عوالِم مُتعدِّدة. رحل الرجل، لكن ظلَّت روحه الطيّبة حاضِرة بيننا. ترسَّخ اسمه في الأذهان وإنتاجه الفكري في أنساق التفكير والمعرفة. عاش في الماضي، لكنه ظلّ حاضراً بما خلَّفه من إرثٍ حركي يكتسي راهنيّة عجيبة، ويفتح الآفاق لورش عمل مُستقبلية.
سنحاول الحديث عن أحد أبرز مُفكّري النصف الثاني من القرن العشرين، في محاولة وسعي لتكريم اسمه، من خلال المحاور التالية:
انصهار الذات في بيئة النشأة
تجسّد شخصيّة محمّد عابد الجابري مِثالاً لتفاعُل الإنسان مع بيئة نشأته، إذ تميَّز الرجل بشخصيّةٍ قويةٍ مُلتزِمةٍ، ونفس طويل، وعزيمةٍ صلبةٍ، استمدّها من مُميّزات طبيعة المنطقة الجافّة الصحراوية التي نشأ فيها.
عاش طفولة صعبة في منطقة فقيرة مُهمَّشة شرق المغرب: فكيك، ولم يستسلم لقساوة الظروف، بل هيَّأته ودفعت به إلى الانتقال من الهامش إلى المركز؛ إلى واجهة أعلام الفكر في العالم العربي.
مُثقّف مُنْخَرِط في هموم بلده وأمَّته
عندما تقرأ للجابري تحسّ، رغم رُقيّ فكره وموضوعيّته وتجرّده، بصدق الكلمة، ونزاهة الأمانة الفكرية، وحرارة الحسّ الوطني، فالرجل كان مُنْصَهرِاً في هموم بلده وأمّته، مُترفِّعاً عن غرائز الأنانية والطمع والوجاهة، مُدافِعاً عن الإنسان وحقوقه وكرامته.
ظلّ مُخاطباً جميع الفئات، مُستعملاً لغة سَلِسة جميلة يُدركها الجميع، ومفاهيم جعلها اعتيادية الاستعمال في مُتناوَل شريحة كبيرة من القرَّاء. لا غَرابة، إذاً، في أن تستأثر كتبه باهتمام القرَّاء في جميع أنحاء المنطقة العربية، وخصوصاً بين الشباب، وترتقي أفكاره إلى محاور نقاش عند المواطن العربي.
مُجرَّد السفر في ظلال إحدى كتابات الرجل تمنح الاطمئنان، وتدعو العقل إلى المُشاركة بالتدبّر والتفكّر، وتقوّي المَناعة ضدّ ما هو شائِع من جَهْلٍ وتفاهةٍ وارتداد.
ذخائر الرجل
يكتنز محمّد عابد الجابري عدَّة توصيفات مُتداخِلة، إذ إن حياته كانت غنيّة بالعطاء على مستويات التربية، الفكر، النضال السياسي، المُمارَسة الصحافية، والبحث في التُراث.
في مجال التربية، أثَّر في جيلٍ بأكمله، وأعدَّه للانطلاق في عالم الفكر والبحث العِلمي، بل ربما أنقذ الكثيرين من التيه والضياع، ومنحهم الرؤية والبوصلة، ووضعهم على الطريق السويّ، وأسَّس لحركةٍ فكريةٍ حداثيةٍ، باعتباره مصدر إلهام لمجموعةٍ من المُفكّرين.
تفوّق في المُمارَسة الصحافية من خلال عمله الريادي في مجموعة من الجرائد والمجلات الفكرية الرائِدة، من قبيل "العِلم" و"التحرير" و"المُحرّر" ومجلة "فكر ونقد"، وأدخل مجموعة من المفاهيم إلى العمل الصحافي، ومنحه الحركيّة والحيويّة والمُتابَعة الشعبية.
من المؤكَّد أن الرجل تميَّز بمقوّماتٍ، وامتلك مَلَكات وذخائر قادته إلى التفوّق والتأثير في الآخرين، نركِّز منها على:
- قُدرة عجيبة على الإقناع والتأطير والتحليل والتفكيك.
- شخصية هادِئة غير صِدامية، مُترَفِّعة عن دنايا الأمور، ومُنْفَتِحة على مختلف الأفكار والفلسفات وأنساق التفكير، لا تكترث إلى الاتهامات أو الاعتراضات أو الحُكم على النيات.
- فكر صادق موضوعي مُتجرّد من كل الخلفيّات (تعامَل مع مسألة العروبة مثلاً بطريقةٍ عقلانيةٍ رغم جذوره الأمازيغية).
- جُرأة في التعاطي مع القضايا الفكرية.
- شخصيّة مُتواضِعة، رغم إنجازاتها الثقافية وسموّ شأنها الفكري.
- رجل غير مهووس بالمناصِب أو الجوائز أو الأوسِمة، صوْناً لحريّته واستقلاليّته.
ضخامة المشاريع الفكرية وأهميّتها
اشتغل الراحِل على مشاريع فكرية ضخمة يستحيل التحدّث عنها في مقالٍ واحدٍ، واهتمّ بقضايا الفكر والتُراث والهوية والخصوصية والديموقراطية وحقوق الإنسان والقرآن الكريم، واشتهر بعملية تشريح العقل العربي ودعوته إلى الإقدام على النقد الجريء البنّاء. وكما هو الحال بالنسبة إلى مجموعةٍ من المُفكّرين العرب، انكبّ الجابري على البحث في السؤال المفْصلي المؤرِق: لماذا تخلَّفنا وتقدَّم الغرب؟
حاول الإجابة عن السؤال بتقديمه مشروعاً ضخماً: نقد العقل العربي (في 4 أجزاء: تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي)، إذ اهتمّ بدراسة البنى الثقافية والمعرفية واللغوية التي ابتدأت منذ عصر التدوين، وكذا مكوّناتها، وهمّ بالبحث في العوائق التي حالت دون ضخّ حركيّة في الفكر العربي، وجعلته مُستقيلاً عاجزاً عن التفكير. لماذا تجمَّد العقل العربي عن التفكير وتوقَّف عن أداء وظيفته؟
بحسب الجابري، هناك فجوة بين التُراث والحاضِر. هناك عوامِل بنيوية تُفسِّر هذا الجمود أو القصور. في ماضينا يوجد الداء والدواء. لا بدّ إذاً من الإقدام على نقدٍ منهجي للتُراث، وإعادة قراءته بطريقةٍ نقديةٍ أكثر فعالية وحيوية، من هنا يطرح سؤالاً جوهرياً آخر: كيف نقرأ التُراث؟
يدعو الجابري إلى إعادة بناء أُسُس ثقافتنا بطُرُقٍ عقلانيةٍ، إلى العودة إلى الفكر العقلاني التنويري (ابن رشد)، لجعل الثقافة مؤهّلة أكثر للاستجابة إلى حاجياتنا المُعاصِرة، إلى إحداث العَقْلَنة من الداخل والنقد الذاتي والمُساءلة. لا مناص من تحديث عملية التعاطي مع التُراث. لا بدّ من قراءته من خلال المناهج المُتاحة اليوم، وفي الوقت نفسه قراءة الحاضِر بتراثنا. يجب الانطلاق من عناصر القوَّة التي يكتنزها التُراث. بعبارةٍ أبسط: أقرأ منه، وأستمد منه ما ينفعني الآن ويعينني على فهْم الواقع ومواجهته.
ختم الرجل مشاريعه الفكرية بمشروعٍ جليلٍ حول تفسير القرآن الكريم، وقام ببناء التفسير القرآني على أساس ترتيب النزول، ليس فقط على مستوى التنزيل، بل أيضاً على مستوى السِيرة النبوية.
الجابري والمُمارَسة السياسية
انخرط محمّد عابد الجابري في الحقل السياسي في سنٍّ مُبْكِرة، وعايش أحداثاً سياسية مفصلية، ونشط في خلايا النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وجاوَر كِبار الساسة، وتمرَّس في رِحاب رفقتهم، من قبيل: المهدي بن بركة، الفقيه البصري، عبدالرحمن اليوسفي، وعبدالرحيم بوعبيد.
وكان من الفاعلين الأساسيين في مرحلة التأسيس لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث ظلّ الانتماء والوجدان، واستمر في العطاء، سواء على مستوى جريدة الحزب أو في كَنَف المكتب السياسي، من خلال تقديم الأفكار والحلول وتذويب الخلافات بين الأعضاء ببناء التوافق بين وجهات النظر. ورغم استقالته من المكتب السياسي للحزب، لم يتبنَّ القطيعة، بل استمر في تقديم الاستشارة والرأي.
مثّل الرجل مشروع مُثقّف في حزبٍ سياسي، حيث كان حامِلاً لمشروع أفكار، ومؤمناً بقناعاتٍ ومبادئ، وداعياً إلى تكسير الحواجز بين الأعضاء، وخصوصاً أن ولادة الحزب انبثقت عن الرغبة المُلحَّة في مُسايرة طموحات الشعب وتحقيقها، والتمرّد على ما كان سائداً في المشهد السياسي من انتهازية ومُتاجَرة في آمال الشعب، وعدم قُدرة النخَب السياسية على النهوض بآمال نضال الاستقلال وطموح المغاربة في بناء غدٍ أفضل.