قد أعتقد بأنني حيّ.. العيش في الأوهام
ثمة أوهام وُجدت قبل ولادتنا، وتربّينا في كنفها، وشكّلت طريقة تفكيرنا وحجّمتها.
قد أعتقد بأنني حيّ، لكنني في الواقع ميت أو في غيبوبة سريرية، بالقدر نفسه الذي أظنّ فيه أنني شخص محبوب من الآخرين، لكنني باطنياً منبوذ مذموم.
قد أرى نفسي على المحجّة البيضاء، لكنني حقيقةً في غيبات الضياع. قد نعتقد بأننا أحسن الأمم، لكننا أكثرها انحطاطاً واستقراراً في الدرك الأسفل.
ثمة لائحة طويلة من الأوهام التي تكبّل تفكيرنا، وتجهز على إدراكنا، وتسيء إلى طريقة تعاملنا مع الناس والأحداث.
من المؤكد أننا نؤمن بمجموعة من الأكاذيب التي نختلقها ونصدّقها، ونقيم لها البراهين الواهية، ونعيش على ضفافها. ثمة أوهام وُجدت قبل ولادتنا، وتربّينا في كنفها، وشكّلت طريقة تفكيرنا وحجّمتها.
تنتابنا جميعاً مجموعة من الأفكار والهواجس، لكن القليل منا يميّز بين الخبيث والطيّب، بين الضار والنافع، بين الوهم والحقيقة.
من المفارقة أن يولد الشخص حراً، فتُسلب حريته في بيئة نشأته، ويُدعى إلى المكابدة والجهاد لاسترجاعها مجدداً، وبشقّ الأنفس.
يبدو أنَّ من الفظاعة والخبل أن يعتقد المرء بأنه حر طليق بمجرد التمتع ببعض الحقوق الطبيعية البيولوجية، بينما هو في العمق يئنّ تحت وطأة سلسلة لامتناهية من ممارسات المصادرة، وقد يكون مسلوب الإدراك، حبيس أفكار متطرفة، أو سفيهاً أُطلق سراحه مؤقتاً تحت رحمة نظام استبدادي، أو لا يعدو كونه مجرد كائن اقتصادي لا يتجاوز دور المنتج والمستهلك.
لماذا نميل إلى الوهم ونرفض الحقيقة؟
في الواقع، نعيش في قلب سلطة سلسلة مفرغة من الأوهام، ونحيا في كنفها أحياناً حتى الممات. نرفض مواجهة الحقيقة، لأنها ثورية وصادمة ومخيّبة للآمال، لكننا نفضّل الميل نحو كل ما يدغدغ المشاعر ويوافق الأهواء الحالمة المترفّعة عن الواقع.
تبقى الحقيقة مزعجة متمردة مقلقة، تنفر منها النفس البشرية، ويهابها القلب، بينما تظل الأوهام مريحة ومطمئنة وملاذاً وراحة ذهنية ونفسية، تلوذ بها النفس بعيداً من القلق والمشقّة والمعاناة.
الخطير في الأمر أنه كلما تعمّقت الأوهام في النفس، زاد انفصام الذات عن الواقع، وابتعدت عن الحقيقة، وانسلخت عن هُويتها الوجودية، حيث إنها تجعل الإنسان عدوّ نفسه، لأنها تقيّد حركته، وتئد إبداعه، وتحجّم خياله، وتخلّ بعملية بناء شخصيته ومستقبله، وتتسبّب بضياع الوقت والجهد والتركيز، وتميل بالذات إلى التكبّر والتعنّت، وتخلّ بعمليات البناء والتدبير الذاتي، فتنكّس الطموحات والأهداف، ما يهوي بالذات إلى الإقصاء الذاتي، وربما الإلغاء المادي والمعنوي.
من المؤكد أن الأوهام تولد وتنمو وتتقوى في بيئة توفر لها بذور الانبعاث والتفشي. لا تنجو الذات البشرية باختلاف أجناسها وانتماءاتها من سلطة الأوهام، مثلما لا يخلو مجتمع من توغل أوهام جماعية وانتشارها، لكن تختلف قوة نشاطها واشتغالها بحسب الشخص ونوعية المجتمع وبنيته وتركيبته.
ربما نوفّر، كمجتمع عربي يعاني من خلايا أمراض نفسية واجتماعية متناسلة، المرتع الحيوي لسطو الأوهام واشتغالها بحدة. من النافل القول أننا في المنطقة العربية نتميّز بارتفاع منسوب الوجدانية والطوباوية والاعتداد بالنفس، والميول إلى التمرد، والبحث عن البطولة، وتغييب العقل والعقلانية، إذ إن مخيالنا الاجتماعي غارق في الأكاذيب والأساطير والأوهام، في وسط تطغى فيه الثقافة الشعبية على نظيرتها العالمة، ويحتكم إلى الخرافة والدجل أكثر منه إلى الحكمة والرشد والعلم.
وما يزيد الطين بلة هو استفحال بؤس الأنظمة التعليمية والتربوية لدينا وإفلاسها، وإفرازها مجموعة من الأوبئة بشتى أنواعها، سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، من دون إغفال وجود خطاب ديني متشدّد حامل للأوهام ومعطّل للعقل واليقظة.
قد ترقى عملية مصارعة الأوهام إلى إحدى أكبر مراتب جهاد النفس، وترمي إلى صفاء الذهن ورجوع الذات إلى مأواها الطبيعي وتوازنها الإيجابي، للتمييز بين الحقيقة والوهم واكتشاف الذات وذخائرها، وذلك من خلال إعادة بناء عملية التفكير على أساس النقد والمساءلة، والتمحيص والميل إلى التشكيك أكثر منه إلى الجزم، والانفتاح على الآخرين، والسعي وراء اكتساب المعرفة والعقلانية، والتحرّر من سلط الجهل والعواطف والأهواء والانغلاق والتقوقع.