مَن هو المُسبِّب الحقيقي للعُنف؟

العُنفُ مفهومٌ ليس وليد اليوم، إنّه ظاهِرة بدأت منذ أن خلقَ الله تعالى الإنسان، فَقَتْلُ هابيل على يدِ قابيل يُمثّل أول مشهد للعُنف يَحدث على ظهرِ هذه البسيطة.

  • مَن هو المُسبِّب الحقيقي للعُنف؟
    العُنف هو السلاح الجارِح الذي يتناوب على حَمْله الشعب والسلطة

العُنفُ في اللّغة أصله من الجذر اللغوي عَنَفَ (ع، ن، ف)، ويعني: "الْخُرْقُ بِالْأَمْرِ وَقِلَّةُ الرِّفْقِ بِهِ، وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ." (إبن منظور/ لسان العرب).

إنّ أخطرَ ما في العُنفِ هو ارتداؤه ثوبَ القَداسة وَمَيْله إلى الإكثار من اختلاق الذرائع والأعذار؛ لذلك نَرى الكثير من أهل السياسة يَنطلقون من اعتقادٍ راسخٍ مفاده أنّ ما يقومون به بَعيد عن الحُرمة وأنّه أقرب إلى المطلوب والضروري. منهج التبرير هذا يسعى لِلَيّ عنق الحقائق وانتقاء الأحكام الشرعية التي تُمكّنه من التلاعُب بعقول الناس وإضفاء الغطاء الشرعي لأعمال الشرّ، بل يسعى البعض إلى اعتبار العُنف عملاً مُقدَّساً يتقرَّب به البعض إلى الله تعالى، وأنّه مهمّة لا يحملها إلّا الأكفّاء. 

لَقَد سَعى أهلُ الفلسفة والفكر وعُلماء الإنثروبولوجيا والإثنولوجيا إلى البحث في مفهومِ العُنفِ باعتباره من أهمّ المفاهيم التي تُسيطر على نوازِعِ الإنسانِ وترسم طِباعه وتُحدِّد سلوكه ونوع علاقاته مع الإنسان الآخر، فأكَّد البعض منهم أنّه ما دام المجتمع بطبعه مَيّالاً إلى العُنفِ والسلوك الإيذائي، فإنّه من البديهيّ أن نَرى نظاماً سياسياً ينتهج العُنف وسيلة لتثبيت قواعده، وأنّه في حال غياب المنهج الأخلاقي في الإصلاح والتربية والذي تنعكس نتائجه من خلال سلوكيّات الفرد العنيفة، فإنّه يتحتَّم على النظام السياسي أنْ يتنهج العُنف كوسيلةٍ ويستخدم القوَّة المُفرطة كأداةٍ لتطبيق النظام وفَرْض سلطة القانون. من هنا يبرز السؤال الذي مازال يُحلِّق فوق روؤسنا يبحث عن جوابٍ في ثنايا جَدليّة مفادها مَن هو المُسبِّب الحقيقي للعُنف؟

إنّ البعضَ من أهلِ الفكر والفلسفة يَرون أنّ العُنفَ والسياسة مَفهومان مُتداخِلان بشكلٍ كبيرٍ، بينما يذهب البعض الآخر إلى ضرورة الفصل بين المفهومين، وتأكيده على أنّ للفكر السياسي مفاهيمه وتطبيقاته الخاصة والتي يَجب أنْ يُنظَر إليها على أنّها النقيض التام لمفهوم العُنف. ثُمّ إننا لم نجد من فلاسفة الأغريق الكثير ممَّن تعرَّض لتفصيلاتٍ دقيقةٍ ومباشرةٍ لمفهوم العُنف وماهيّته وأسبابه ونتائجه، حيث يُشير الباحِث جان لوتشيوني في كتابه (فكر أفلاطون السياسي - 1958)، إلى تلك المُناقشات التي قدَّمها أفلاطون في الفضيلة والعدالة والمُساواة، فقد كان كثير الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية والسياسية التي كانت تتَّصف بها أغلب الأنظمة السياسية، حيث أنّه كان جريئاً باقتحامه لساحة الديمقراطية ونَقْدِها باعتبارها جسراً لبلوغ الفوضى القِيَميّة وأداةً لتجسيد التجزئة وعدم الاتفاق، وأنّها القاعدة التي تُسمّى بـ"سلطة الدهماء" والتي تَتّكىء عليها الأنظمة التي تدَّعي الديمقراطيّة خطأً، وهي في الحقيقة مفهوم يستخدمه الكثيرون من أجلِ خَلْقِ الفَوضى؛ فِكرٌ ديماغوجي وخَلْط للمفاهيم ينطلق من فكر "الزعيم الأبدي".

ونرى البعض من المُفكّرين اتفقوا على أنّ للسلطة السياسية المُجوِّز والمُبرِّر لاستخدام العُنف من أجل السيطرة ولتكون الدولة والشعب والموارِد كلّها تحت هَيْمَنته وَمُسخَّرة مِن أجل بَقائه. وأهم مَن ذهبوا إلى هذا الاتجاه هو الفيلسوف نيكولو ماكيافيلّي (1469 - 1527)، والذي يُعتَبر من أوائل المُؤسِّسين والمُنظّرين للمدرسة الواقعية في السياسة، ففي كتابه "الأمير" وهو دراسة في الفُقه السياسي أعدَّها عام 1513عندما كانَ في منفاه، ثمّ أهداه إلى لورينزو دي مديتشي (Lorenzo de’ Medici ) حيث تضمَّن العديد من الرؤى والأفكار والنصائح التي كانت في أغلبها مُبرِّرات للأمير باستخدام العُنف من دون اعتبار المعايير القانونيّة والأخلاقيّة.

وقد جاء في بعض فقرات الكتاب: "وهنا يقوم السؤال عمّا إذا كان من الأفضل أن تكون محبوباً أكثر من أن تكون مُهاباً أو أن يخافك الناس أكثر من أن يحبّوك. ويتلخّص الرد على هذا السؤال في أن من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبّوك ولكن لما كان من العسير الجَمْع بين الأمرين، فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبّوك، هذا إذا توجَّب عليك الاختيار بينهما. وقد يُقال عن الناس بصورةٍ عامةٍ أنهم ناكِرون للجميل، مُتقلّبون، مراؤون ميَّالون إلى تجنّب الأخطار شديدة الطَمَع، وهم إلى جانبك طالما أنك تفيدهم فيبذلون لك دماءهم وحياتهم وأطفالهم وكل ما يمتلكون، طالما أن الحاجة بعيدة نائية، ولكنها عندما تدنو يثورون".

وأمّا في المنهج السياسي فعبارته المشهورة تعكس ذلك حينما قال: "الغاية تبرِّر الوسيلة"، وهو يُشير إلى أية وسيلة كانت بغضّ النظر إن كانت تتعارَض مع المبادئ الدينية والقِيَم الأخلاقية.

وأمّا الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز (1588 - 1679)، فهو مِنْ أهمّ الفلاسفة الذين تَحدَّثوا عن الخاصيّة الإنثروبولوجية للعُنف، فقد أعدَّها قاعدة لبناء السلطة المُطلَقة وَسَعى من خلال نَظَريّته (العَقْد الاجتماعي) من خلال كتابه "لوياثان" لتبيان الأُسُس والمبادئ العقلانية التي تقوم على أساسها السياسة المدنية والتي من خلالها يُمكن تَجنّب كلّ الأسباب المؤدّية إلى تفكّك وانهيار الحُكم، حَيث أنّه وَصَل إلى نتيجةٍ مَفادها أنّ الآثار السَلبية للحُكم المُستبدّ هي كما يصفها: "أقل وطأة على النفس من البؤس والويلات التي تنجم عن الحرب الأهلية".

لَقَد انطَلَقَ هوبز من قاعدةِ أنّ الطبيعة البشريّة والسلوك الإنساني يجعلان من الحياة أمراً مُستحيلاً بعيداً عن سلطة الدولة السياسية، حيث أشار إلى أنّ العُنف يتولَّد في الطبيعة الإنسانية بأشكالٍ ثلاثة، الأول: التنافُس، حيث يتّخذون من العُنف وسيلة للوصول إلى منافعهم ومصالحهم، والثاني: هو الحَذَر، والذي يُمثّل سبيلاً لإدراك الأمن، أما الثالث: الكبرياء، حيث يَميلون إلى العُنفِ من أجل سمعتهم. وهو بالإضافة إلى كل ذلك كان يُشير إلى أنّ الحياة السلميّة الخالية من العُنف إنّما هيَ مَرحلة الاستعداد التي تسبق مَرحَلَة العُنف.

وَلأنّ الإنسانَ بطبيعته يميل إلى حياة الأمن والأمان فهذا بحدّ ذاته يُشكِّل عامِلاً يَدفع به إلى تقديم الطاعة للسُلطة وللحاكِم، حتى وإن كان مُستبدّاً، وأنْ لا يَمَسّ بكيان الدولة وأنْ يتجنَّب كلّ ما مِن شأنه الانتقاص من هيبتها، وبالتالي فإنّ هوبز يوكِّد من خلال هذه الفرَضية وجود علاقة بين طاعة الحاكِم وإن كان مُستبدّاً وبين العَيْش بأمنٍ وسلامٍ، وأنّ هذه الطاعة هي الضمان لتُحقّق الأمن.

إنّ السبب وراء تقديم هوبز النظرية التعاقديّة والتي أساسها: "الإنسان ذئب للإنسان" هو اعتقاده أنّ هناك ميولاً فطريّة للإنسان نحو العُنف وهي حقيقة مُتأصّلة في النفس الإنسانيّة، وعليه فلا بُدّ من وقف هذا العُنف وإلا كان سبباً في استحالة الحياة ضمن هذا النطاق المُجتمعي، وأنّه وَمِن أجل إقامة السّلم المُجتمعي فإنّه كان لِزاماً تشكيل سلطة عُليا تنتهج العُنف ضدّ كل مَن يُسيء إلى النظام وينتهك القوانين المجتمعية.

شَهَدَت نظريّات ماكيافيلّي وهوبز مُعارضة من قِبَل الكثيرين، وقادت إلى امتعاض العديد من الفلاسفة والمُفكّرين، وأبرزهم جاك روسو (1712- 1778)، الفيلسوف الفرنسي الذي قدَّم مَنهَجَه وَفَلسفته مُدافِعاً عن قِيَمِ وجماليّة وخَيريّة النفس الإنسانيّة. لَقَد أبدى روسو اختلافه مع منهج هوبز مُستعيناً بأساسٍ ثابتٍ مفاده أنّ الطبيعة البشريّة هي طبيعة سلميّة في الأساس، وأنّ تشويهها وَحَملها على الشرِّ أمرٌ غير مُبَرَّر، لذلك فإنّه من الطبيعي وبالإمكان إقامة حياة يَسودها السّلم والخير من دون اللجوء إلى مُبرِّرات العُنف من قِبَلِ الدولة السياسية. واستغربَ روسو كيف لمُفكّرٍ كبيرٍ كهوبز يَضَع فكره وفلسفته في خدمةِ الحاكِم المُطلَق. لقد نشر روسو كتابه "العقد الاجتماعي" في عام 1762، ليكون القاعدة والمُنطلَق للنظام السياسي الشرعي وضمن نظام جمهوري. لقد ابتدأ أطروحة الكتاب بالمقولة المشهورة: "يولَد الإنسان حُرّاً وهو مُقيَّد في كل مكان. إن أولئك الذين يعتقدون أنفسهم سادة الآخرين هم في الحقيقة عبيد أكبر منهم".

وَمَن يَقرأ أفكار هوبز بتمعّنٍ وتدبّرٍ سيُدرك أنّ هوبز لم يكن يقصد أن الإنسان بطبيعته مجبول على فعل الشر ويميل إلى القُبح والعُنف في أفعاله، إنّما كان يهدف من خلال نظريّاته إلى أنّ الإنسان وبحُكم طبيعته الخلقيّة فهو غير مُهيَّأ سلوكياً أو غرائزياً للعيش ضمن مجتمعات مُترامية الأطراف من دون وجود ضوابِط وقوانين وأنظمة تَحكمه وتُلزمه بالتقيّد بها؛ فالإنسانُ ليسَ بمقدوره العيش طبيعياً كخلايا النّحل وبيوت النمل وليس باستطاعة بَني البشر التعامُل مع بعضهم البعض بطريقةٍ غرائزيةٍ أساسها التعاون من أجل أهداف مجتمعية وخدمة للصالح المُشترَك، بَل على العكس، فالتدافُع والصِراع والتنافُس هي السِمات التي تحكم الحياة الاجتماعية، وأنّ هذا الصِراعَ والتّدافُعَ إذا لم يُحدَّدا بِنُظُم وَقوانين من أجل منع الانجرار نحو التدافُع السّلبي والذي يقود إلى الفوضى والتخريب والجريمة وبالتالي ضياع الحياة المجتمعية بالكامل.

إنّ مِنَ المُهم الإشارة إلى أنّ هوبز قد بالغَ بوصف غريزة الشرّ لدى الإنسان ولعلَّ ذلك يعود إلى أنّه قد عاش فترة الصِراع الدامي بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد أثّر ذلك في تحديد أفكاره وطبيعة نظريّاته؛ فلو أنّ المجتمع الذي ترعرع فيه هوبز والظروف القاسية التي عاش فيها قد تغيَّرت نحو الأحسن، فإنه قد يُغيِّر أفكاره ومُعتقداته، فالإنسان الذي يعيش السلام والاستقرار ستنعكس هذه الظروف إيجاباً على طِباعه وسلوكه.

لذلك فالمجتمعات التي تعيشُ نظاماً سياسياً مُستقرّاً، يَستمدّ شرعيّته ووجوده ومُبرِّرات ديموميّته من خلال أطرٍ قانونية ومنطقيّة لنظامٍ إنتخابيّ عادل، يفرزُ سُلطة حاكِمة شرعيّة ومقبوله من قِبَل الإرادة الجماعية وليس الأقليّة المُتسلّطة. إنّ هذه السلطة ستكون حينها حاجَةً مهمّةً وشرطاً واجباً لبناء الإنسان وقيام نَهضة مُجتمعية مُتكامِلة قوامها التطوّر في جميع المجالات، وليعيش أفرادها حياةَ الفكر والوعي والخلوّ مِنَ الأنا والنفعيّة، حياةً بعيدةً عن التعقيدات؛ حينها فقط سَتَبرز الصفاة الإنسانية الخيِّرة وسَتَنحَصر أو قَد تَنمَحي الصفاة الشريرة، وسيُصبح حينها مِنَ اللّامعقول استخدام العُنف بأيّ شكلٍ من الأشكالِ وتَحت أيّ مُبرِّر كان.

إذن فالعُنف هو السلاح الجارِح الذي يتناوب على حَمْله الشعب والسلطة؛ فقد تَحملة الجماهير حينما يَعمّ الظلم ويعيش الناس مرحلة التجهيل المُمَنْهَج والتركيع الإجباري وَتَغييب لُغَة الوَعي والمَنطِق، والذي قد يكون للسلطة دور في مَنْهَجَتِهِ وَتَطبيقه فيكون هذا السلاح حينها تهديداً مباشراً ليس لاستقرار وأمن البلاد فحسب بل لوجود السلطة واستمرارها.

وهذا ما أشار إليه أرسطو وكذلك الفارابي في المدينة الفاضِلة، حيث اعتبرا أنّ إتّباع الحِكمة والعدل في السياسة يستدعي المُلازَمة بين الطبيعة الإنسانيّة بنوازعها وغرائزها وبين القِيَم والمفاهيم التي يجب تثبيتها في المدينة النموذجية أو الفاضِلة، وأنّ الظُلم والتّسلّط لا تراهما إلّا في المدينة الضالّة، وبالتالي فالإنسان الذي يمتلك الفكر والوعي إنّما هو نِتاج طبيعي لتلك المدينة المُثلى. فطبيعة الإنسان الخلْقيّة والنَزَعات الخُلُقيّة التي تعيش في الذات الإنسانية سوف تتجلّي وتتَّسع في ظلّ وجود مدينة فاضِلة، فيتحتَّم عليه الارتواء من نبعِ القِيَمِ والمبادئ أينما حلَّت وَوجِدَت، وبذلك يَسقط سلاح العُنف ولا يكون حينها أيّ مُبرِّر لاستخدامه.