أميركا والرئيس الفلسطيني القادم

انشغال العالم بالبحث عن رئيس فلسطيني في ظل حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ خمسة أشهر يؤكد أن العالم لا يهمه أمر الشعب الفلسطيني، وإنما ترتيب الأرواق وتأمين مصالح "إسرائيل" واستمرار حفظ أمنها.

  • الحكومة الفلسطينية والحرب على غزة.
    الحكومة الفلسطينية والحرب على غزة.

لقد جاءت الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 1996 كنتاج لاتفاقي أوسلو سنة 1993 والاتفاق المرحلي سنة 1995، فقد نص البند الثالث من اتفاق إعلان المبادئ على أنه كي يتمكن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من حكم نفسه وفقاً لمبادئ ديمقراطية تُجرى انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس تحت إشراف ومراقبة دولية.

وقد تم عقد الانتخابات الفلسطينية للرئاسة الفلسطينية بناء على اتفاقية أوسلو، مرتين منذ قيام السلطة، الأولى التي فاز بها الرئيس ياسر عرفات ونافسته فيها سميحة خليل.

وقد استمر الرئيس عرفات في حكم السلطة حتى استشهاده سنة 2004، ومن ثم جرت الانتخابات الثانية عام 2005، وفاز بها الرئيس محمود عباس، ونافسه بها كل من المرشح مصطفى البرغوثي ومرشح الجبهة الديمقراطية تيسير خالد ومرشح حزب الشعب بسام الصالحي والمرشح المستقل عبد الحليم الأشقر، وما زال عباس هو الرئيس. 

لقد اختلفت دوافع الأطراف من إجراء الانتخابات، فالولايات المتحدة اقترحت إجراء الانتخابات من أجل دعم الاتفاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أما "إسرائيل"، فاعتبرت الانتخابات بمنزلة استفتاء على السلام، ورغبتها في إعطاء شرعية للعملية السلمية، وتقوية معسكر السلام في الشارع الفلسطيني، واحتواء المعارضة، فيما هدفت السلطة من خلال إجراء الانتخابات إلى تحقيق الشرعية الدستورية التي افتقدتها، والتخفيف من مقولة أن السلطة تستمد شرعيتها من الاحتلال، وهذا ما أكده صائب عريقات آنذاك، إذ بين أن أهمية الانتخابات تكمن في ثلاث نقاط رئيسية، هي "أن إعادة الانتشار يتمثل بشقيه الآني واللاحق، وهذا يخلق ظروفاً جديدة على الأرض، وأن الانتخابات تعني الشرعية المحلية والدولية للسلطة الفلسطينية، وأن الانتخابات بحد ذاتها تعني نقل عملية السلام من أيدي القادة إلى الشعب". 

يذكر أن الرئيس عباس أحد مهندسي اتفاق أوسلو الذي عقدت الآمال عليه في إقامة دولة فلسطينية، لكن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة وممارسات الاحتلال قوضا شرعية السلطة شيئاً فشيئاً، وأصبح الفلسطينيون ينظرون إلى السلطة على أنها فاسدة وغير ديمقراطية ومغيبة. 

وهنا يبرز سؤال موجه للمسترئسين: ماذا قدمت أميركا و"إسرائيل" والعرب للرئيس عباس على مدار حكمه المستمر؟!

في الانتخابات الثانية التي فازت بها حركة حماس، تنصلت جميع الأطراف مما سبق، وعملت جميعها على رفض نتائج الانتخابات كل بطريقته الخاصة، ووصل الحد إلى الحصار المطبق وعدم التعامل مع الحكومة العاشرة، وهذا يدلل على أن وجود "إسرائيل" هو المعوق للديمقراطية ولصناديق الاقتراع، فإذا كانت النتيجة لمصلحة "إسرائيل" فسيُرحب بها، وإذا كانت النتيجة الديمقراطية تتعارض مع مصالح "إسرائيل" فحصارها ومحاربتها هو سيد الموقف، كما حصل مع الحكومة العاشرة، فادعاء الديمقراطية ادعاء زائف لجميع الأطراف، وفي المقابل الانتخابات الإسرائيلية مطلوب من العالم والفلسطينيين القبول بها حتى لو أخرجت عتاة المتطرفين؛ فهذا هو الكيل بمكيالين، وهو يثبت أن العالم، وبالتحديد أميركا، لا يعرف غير لغة القوة. 

تأسيساً على ذلك، إن انشغال العالم بالبحث عن رئيس فلسطيني في ظل حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ خمسة أشهر يؤكد أن العالم لا يهمه أمر الشعب الفلسطيني، وإنما ترتيب الأرواق وتأمين مصالح "إسرائيل" واستمرار حفظ أمنها، وعدم خروج المنطقة عن السيطرة الإسرائيلية. يريدون رئيساً فلسطينياً على المقاسات الإسرائيلية؛ يعني موظفاً كبيراً في مكتب الإدارة المدنية الإسرائيلية وبمباركة أميركية وعربية. 

وجدير بالذكر أن جميع الدول، ومنها العربية، تعاملت مع حكومة اليمين المتطرفة بقيادة المجرم بنيامين نتنياهو والمتطرف بتسلئيل سموتريش والبلطجي إيتمار بن غفير، وعلى الرغم من أنهم يحتلون أرض شعب آخر ويبيدونه، فالعالم لم يتدخل في نتائج الانتخابات الإسرائيلية ولم يحاصر حكومة اليمين، بل قام العرب بالتطبيع معها، وأميركا تدعمها بكل قوة.

وفي المقابل، كيف تعاملوا مع نتائج الانتخابات الفلسطينية الثانية وتشكيل حركة حماس للحكومة؟ لقد عانى الشعب وما زال يعاني الحصار والحروب في الوقت الذي يدعم العالم حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، أي معادلات وأي معايير هذه؟ والأنكى من ذلك أن الجميع يتحدث عن الديمقراطية. 

في علم السياسية، تتم عملية التغيير في الدولة من خلال طريقتين؛ الأولى من أعلى إلى أسفل، والثانية من أسفل إلى أعلى، فغالبية دول العالم تقوم بتطبيق الطريقة الثانية من خلال صناديق الاقتراع. أما في فلسطين، فالجميع يريدون إسقاط رئيس في البراشوت من أعلى إلى أسفل، أي تطبيق الطريقة الأولى، والتي تنفذ في العادة من خلال الانقلابات العسكرية، وأكثر من ذلك يبدعون في استحداث وسائل وطرق لكي يحضروا لنا رئيساً على دبابة إسرائيلية؛ فنحن شعب قادر على اختيار رئيسه ومن يمثله، بلا تدخل من العالم المنافق، وحتى لو كان التدخل عربي فهو مرفوض.

الشعب الفلسطيني هو من يختار من يقوده، فالشعب الذي قدم عشرات الآلاف من الشهداء، وقاد معركة الطوفان، وشق طريق النضال الشاق من عمق الأرض، وابتدع القتال من نقطة الصفر، قادر على أسهل طريقة للنضال، وهي التوجه إلى صناديق الاقتراع. 

ولن يقبل الشعب بأي شخصية خارج المبدأ المتعارف في الشريعة القانونية والإنسانية لحكم البشر، فمن يسعى ويتدخل من أجل حماية "إسرائيل"، ليعلم أن وجود "إسرائيل" هو المشكلة. والحل يكمن في إنهاء الاحتلال، وهذه أكبر مساعدة يقدمها للشعب الفلسطيني. 

لقد طالب كل من مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الرئيس عباس القيام بإصلاحات لمكافحة الفساد، وتمكين المجتمع المدني، وتنازل عباس عن بعض سيطرته على السلطة، وتعيين نائب له، وتسليم الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء وضم شخصيات جديدة في القيادة، وكأن المشكلة في تغيير المسؤولين، وليست في الاحتلال، وعدم تسليمه بالحقوق الفلسطينية. 

وفي هذا الخصوص، تفضل أميركا و"إسرائيل" تعيين "ممثل مقبول عندهم" نائباً، ومن ثم خليفة لعباس في المستقبل، وكأن الانتخابات لا تليق بنا. ففي الحالة الفلسطينية، فمن تقترحه أميركا و"إسرائيل" وحتى العرب بعد موقفهم المتفرج من حرب الإبادة على القطاع لا يمكن للشعب انتخابه، ففي الوقت الذي فشلت أميركا بحل مشكلة أموال الضرائب التي جمدتها "إسرائيل" في أعقاب السابع من أكتوبر، تتحدث عن إقامة الدولة، ولكن هنا يبرز السؤال: من لا يستطيع إجبار وزير المالية الإسرائيلية سموتريتش على تحويل أموال المقاصة، هل يستطيع إنهاء الاحتلال ومن ثم إقامة دولة فلسطينية؟ 

العالم يريد تعيين رئيس فلسطيني يكون وكيلاً حصرياً لحماية أمن "إسرائيل"، ويكون ستارة يحكم من خلفها المنسق؛ مرة ثانية، شعبنا لن يقبل في (س أو ص)، فالشعب الفلسطيني سيتوجه إلى التوافق الوطني بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لحين إجراء الانتخابات خلال أقل من عام. ففي النهاية، لا داعي للتنقيب الأميركي والإسرائيلي والعربي عن رئيس فلسطيني بطبعة إسرائيلية، لن تجدونه حتى لو نقبتم مدى الحياة، وحتى لو وجدتموه سيلفظه الشعب، وسيستبدله بالطريقة الثورية. 

ومن البديهي القول إن الإدارة الأميركية لا تتعلم من دروس الماضي الخاصة بها. وهنا يبرز السؤال الكبير: من الذي عين كلاً من شاه إيران وحامد كرزاي في أفغانستان؟ وكيف كان مصيرهم؟

أما بخصوص الدول العربية المنشغلة بالإعداد لتعيين رئيس فلسطيني على المقاس الأميركي الإسرائيلي، نقول لهم أن يهتموا في شؤونهم الداخلية وحماية دولهم وثروات بلادهم وحماية شعوبهم من التطبيع مع "إسرائيل" التي أصبحت بحاجة إلى من يحميها، ولولا أميركا منذ بداية السابع من أكتوبر التي أوقفتها على أقدامها لانهارت بشكل مدوي، فكل من يريد مساعدة الشعب الفلسطيني عليه عدم التدخل في الشأن السياسي بما أن الشعب الفلسطيني لم ولن يتدخل في شؤون أي دولة عربية، فأنتم من أوقف حتى الدعم الاقتصادي للسلطة، ولم تتجرؤوا على اتخاذ موقف لإدخال كرتونة حليب أو علبة دواء لأطفال غزة بجميع أعضاء جامعتكم، تريدون حماية أمن "إسرائيل" وعدم تكرار عملية الطوفان من خلال إحضار رئيس يلبس العباءة العربية ويركب على دبابة الميركافا. 

هذه الدبابة حولتها المقاومة إلى قطعة من الخردة، فالشعب سوف يلفظ جميع المقاربات التي لا تعطيه حقوقه على جميع المستويات، ابتداء من الديمقراطية الشعبية الحقيقية، وانتهاء بإقامة الدولة وعاصمتها القدس ذات السيادة، فمطلوب منكم أقل الإيمان مساعدة الشعب الفلسطيني بعدم مساعدة "إسرائيل" على قتل الفلسطينيين واعتقال صناديق الاقتراع لاختيار من يمثل الشعب بالطريقة الشرعية المتعارفة. 

أما على المستوى الفلسطيني، فهناك للأسف الشديد الكثير من القادة والمسترئسين الذين من الممكن أن يتعاطوا مع أميركا مقابل توليهم الكرسي، على الرغم من معرفتهم المسبقة بأن هذا الكرسي، في ظل رؤية وشروط أميركا ووجود الاحتلال، بلا أرجل متينة، بل يضربه السوس الأميركي والإسرائيلي والعربي والمصالح الخاصة، فلم يقدم للشعب الفلسطيني هذا الكرسي بشخوصه المتنافسين غير مزيد من الاستيطان والتهجير والشركات الخاصة التي تعتمد على جيوب الناس لدفعهم إلى الهجرة الطوعية، ومن يرفض الهجرة تحت الضغوط والممارسات الاحتلالية، سيضطر إلى الهجرة لعدم وجود سياسات إصلاحية وحوافز لدعم صمود المواطنين، ستشكل عوامل دافعة للهجرة وبالتحديد لفئة الشباب لحسم الصراع الديموغرافي.

وبناء عليه، أي مسؤول فلسطيني يقبل بأن يأتي من خلف ستارة أميركية وإسرائيلية وبتخريجة عربية يعتبر نائباً لمنسق الإدارة المدنية، وليس رئيساً فلسطينياً. لذلك، نعود إلى الحل الوحيد، وهو الإجماع الفلسطيني بظل وجود حركتي حماس والجهاد، وبسقف زمني محدد للتحضير إلى انتخابات عامة، يختار الشعب الفلسطيني رئيسه ومن يمثله في المجلس الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية والتشريعي والحكومة، غير ذلك سيكون مصيره الفشل المحتم.