خديعة الحِياد.. حينما تهرب السياسة إلى أعلى التل
يقول المُناضِل والزعيم الأميركي مارتن لوثر كينغ إن "أسوأ مكان في الجحيم مُخصَّص لأولئك الذين يقفون على الحِياد في المعارك الأخلاقية الكُبرى".
الحِياد والتحييد هما إشارة إلى المُجانبة، وقد جاء في لسان العرب (مادة حيد): "وحايده مُحايدة: جانبه". و "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة: مال عنه وعدل".
إنّ الطريق المُوصِل إلى بلوغ الحقيقة لا يكتمل إلّا من خلالِ تدقيقٍ ثُمّ إدراك للعديد من مفاهيم المعرفة الإنسانيّة، فالتداخّل وسوء الفَهْم والتحريف يوجِب على الباحِثِ الوقوف عند تعريف المفهوم وعلاقته بباقي المفاهيم، بغضّ النظر عن نوع هذه العلاقة سواء كانت تداخُلاً، تشابُهاً، اختلافاً، تعارُضاً أو تناقُضاً.
ويُعتبر مفهوم الحِياديّة أحد أهمّ المَفاهيم المُرتبطة بالفكر الإنساني عموماً والسياسي على وجه الخصوص. حيث يسقط الكثيرون بوَهْمٍ مفاده أنّ الحياديّة هي المدخل والأساس للوصول إلى الموضوعيّة، فلو سلَّمنا بذلك جدَلاً لأصبحت جميع الأفكار والرؤى غير الحياديّة هي بالنتيجة خالية من الموضوعية.
إنّ النفس الإنسانيّة تَنهَلُ كمالاتها المعرفية من خلال البُعد الأنطولوجي والذي يُمثّل الإحاطة والبحث في جوهر هذا الوجود غير المادي والمُرتبط بالقضايا الميتافيزيقية ذات الأبعاد التصوّريّة كالزمان والمكان والكيف والعلَّة وغيرها، ومدى ارتباط ذلك بالفكر الإنساني، ودور العقل والحواس الإنسانيّة في التعامُل مع هذه المُسمّيات. ثمّ أنّ هناك بُعداً آخر يفرض تأثيره على النفس الإنسانية وهو البُعد الأبستمولوجي، أو فلسفة المعرفة، والذي يُعنى بِطبيعيةِ ونِطاقِ المعرفة المُكتَسبة من خلال تفاعُل الإنسان مع بيئته.
والمنظور المعرفي للإنسان يبرُزُ وتظهر معالمه وصفاته من خلال الإندماج والتداخُل بين المصادر الأنطولوجية والأبستمولوجية وأنّ المعرفة الإنسانيّة ستأخذ بعد ذلك قالبها الطبيعي، وتكون معرفة الذّات كذلك مُحَدَّدة تَبعاً للمنظور المعرفي والفكريّ للإنسان، وأنّ هذه الذات وبما تمتلك من عُمقٍ معرفي هي التي سَتَتّخذ قرار الحِياد أو الانحياز مِن عَدَمه.
وفي الميادين السياسية ونظراً إلى تعدُّد الرؤى والأفكار التي تمسّ مستقبل الأوطان وحياة الشعوب من حقوقٍ وواجبات، حيثُ الكثير من القُوى والتيارات والأحزاب السياسيّة تتبارى بتبنّي أيديولوجيات تتّخذ من اختلاق المُبرِّرات الكاذِبة والشعارات التافِهة أساساً لعملها، نلاحظ أنّ هذا التنوّع، والاختلاف، والذي يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى التناقُض والتصادُم هو السِمة البارزة لتلك الأحزاب. وفي ظلّ هكذا اختلاف وتبايُن في المفاهيم السياسية، وَبَعد أنْ يكتمل المنظور المعرفي للإنسان ببُعديه الأنطولوجية والأبستمولوجية، فإنه يصبح من الصعوبة بمكانٍ أنْ نَجِدَ الإنسان يعيش موقف الحِياد، آخذين بنظر الاعتبار ما يُضاف إلى الذّات الإنسانية من بُعدٍ أخلاقيٍّ جديد يتأرجَح بين المنافِع الماديّة والمعنويّة، وعليه تبدو مسألة الحيادية أمراً بعيد التطبيق في ظلّ هكذا وعي معرفي.
وفي السياسة، الحِياد أمر مرفوض، خصوصاً عندما تعني السكوت أو النأي بالنفس والوقوف على أعلى التلّ، والاكتفاء بالتفرّج على معركة طاحِنة تدور رُحاها في الغالب بين الحقّ والباطل، السجَّان والسجين، الظالِم والمظلوم، فالحِياد عندها يعني ملجأ الأمان حينما تدقّ الحرب أجراسها ويبدأ الفَزَع والجَزَع من الموت يدفع أهل الحِياد إلى الهروب طلباً للنجاة والسلامة، سيّما وأنّ فكرة الحِياد في مضمونها قد تعكس للبعض صورة الضمير والاستقامة والوسطيّة، لكنّها في الواقع نأي بالنفس خوف التهلكة، والذي قد يقع فريسته الكثيرون.
ولأنّ المُفكّر هو صاحب الكفَّة الأثقل في الميزان، فإن الحِياد الإيجابي (إذا جاز لنا تسميته كذلك) قد يكون إشارة إلى فترة البّحث عن الحقيقة من أجل امتلاك الذات المعرفيّة بغضّ النّظر عنِ الجهة التي تَحمل الحقيقة.
ففَهْم الحقيقة واستيعابها يحتاجان إلى ذاتٍ مُنصفة، مُعتدلة، مُنصِتة، تأخذ الحياد في مرحلة ما ولفترة مُحدَّدة، من أجل اتخاذ القرار وَحَمل المعرفة لبلوغ مَرتبة الانتماء المعرفي لِيَخرُجَ بعدها عنِ الحِياد حاملاً الحقيقة كاملة، يرى من خلالها الواقع بعين البصيرة. لذلك فالحِياد يمكن أن يكون إيجابياً حينما يكون وسيلة لكَسْبِ الحقيقة، أمّا عندما يكون الحق واضحاً جليّاً كالشمس والباطِل قد كشَّر عن أنيابه فإن الحِياد سيكون سبباً لزيادة القهر واستمرار الظُلم والرضا ببقاء المُستضعَفين يرزحون تحت وطأة طُغاة مُستبدّين.
لذلك نجد أنّ البعضَ يعتبر الحياد مفهوماً مُجرّداً عن كل معنى، فعادة المفاهيم تنحاز نحو المعاني والأفكار، ولأنّ الموضوعية سِمةً للمعرفة فالحياد إذن هو مفهوم مُجرَّد عن الموضوعية، بدليل أننا لو سلّمنا بمضوعيّته لأصبح أهل الحق غير موضوعيين، والحياد إذا جاز تعريفه وإعطاؤه معنى عدم الميلان فهو بذلك حَمَلَ معنى الاستقامة وأنّه بذلك قد تَحَوّلَ من الحياد إلى فكر يحمل مفهوم الاستقامة.
وأمّا البعض الآخر فيعتبر الحِياد منهجاً ووسيلةً يَميل إليها البعض من أجل الابتعاد وعدم التغلغُل في تفاصيل أسباب الصّراع خوفاً من الحقائق التي قد تَضَعهم في دائرةِ الحَرَج، لذلك فإنّ أهل الحياد يلجأون إلى الابتعاد خوفاً على أنفسهم من إتمام الحجَّة عليهم.
إنّ أشدّ أنواع الحياد تهديماً هو ذلك الذي يبدأ فيه المُحايدون بممارسة اللّبس والتضليل على الناس وتغيير الحقائق والمساوات بين الظالِم والمظلوم، والتشهير بالطرفين طلباً في لَبس ثوب القداسة، وأنّهم بموقفهم المُتفرِّج هذا إنّما هُم على الطريق الصحيح، وبذلك يكونون أشدّ ظُلماً للحق من أهل الباطِل.
فالحِياد الذي يتذرَّع به الكثيرون إنّما هو تَحيّز مُخزٍ وانضمام سافِر لجبهة الباطل والوقوف أمام جبهة الحق. تلك الجبهة التي لا تؤمن بالحِياد أصلاً فكيف حينما يكون الحِياد مُتحيِّزاً. فبماذا نُفسِّر تَغاضي الكثير من المُتحزّبين وبعض مَن يدَّعي حَمل الفكر رغم امتلاكهم الحقيقة لكننا نراهم يهربون من الحق وأهله ، يتركونهم من دون ناصِر أو معين ويختبئون خلف وَهْم إسمه الحِياد؛ لذلك فالحياد وسيلة يلجأ إليها البعض ويرفعها شعاراً وادعاءً، ولكنّه في الحقيقة يُشعِل فتيل النزاع ويسعى إلى تأجيج الصراع، منهج أهل الخبث، ينتظرون فيه النهاية ليبدأوا هم بقطف ثمارها.
الحياةُ مَسرحٌ كبير، سُنّته التدافُع بَين الناس، والكثيرون تَراهم ينتحلون صِفَة المُصلحين، يُخادعون النّاس بأقوال الزور، ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، يتسابقون بحملِ القِيَمِ والمبادئ، ويُظهرون كذباً دفاعهم عن المظلومين ورفضهم للظالمين، والحال أنّهم حينما يجدّ الجّدّ ويتقابل الحق والباطِل تَراهم نَحو الحياد يهرولون، وهم في الواقع عن الحقّ يهربون وعن نُصرة المظلومين يتخاذلون، وعن أداء المسؤولية يَنكُصون، يَكتفون بالتفرّج مَعَ عِلمهم ومعرفتهم بواقع الصّراع وحقيقة أطرافه، لكنّ الأطماع والمصالح الدنيويّة قد تغلّبت عليهم وأبقتهم يُخادِعون أنفسهم بأكذوبة الحياديّة.