"الفينومينولوجيا" وأثرها في حَسم الصّراع

استُخدِمَت مُفردة "الفينومينولوجيا" لأول مرة عام 1764 من قِبَل المُفكّر والفيلسوف السويسري لامبرت Lambert في كتابه (الأورجانون الجديد) Neues Organon، ثم تحدّث عنها الفيلسوف إيمانويل كانط في عدَّة مناسبات.

  • "الفينومينولوجيا" وأثرها في حَسم الصّراع
    استُخدِمَت مُفردة "الفينومينولوجيا" لأول مرة عام 1764 من قِبَل المُفكّر والفيلسوف السويسري لامبرت

يُجمِعُ الكثير من الباحثين على أنّ وَعيَ الذّات هو مِنَ المباحث الفلسفيّة الكلاسيكيّة التي نَظّر لها وَكَتَب عنها العديد من أهل الفكر والفلسفة، فالإنسان في هذا الكون اللامحدود يمثّل المحور والقُطب الذي يَدور حَوله ولأجله كلُّ ما خلق الله تعالى من كائنات، وكواكب، ومجرّات، وعوالم؛ الأمرُ الذي يَستدعي منه أنْ يَقِفَ موقف الواعي والمُدرِك والمُتسلِّح بالفكر الذي يُمكّنه من بناء ذاته الإنسانية من أجل التواصُل مع الموجودات المحيطة به ببصيرة تدفعه إلى بلوغ كمال الإدراك والبصيرة في التعاطي مع كل ما يواجهه من تحديات ومصاعب.

لَقَد استُخدِمَت مُفردة "الفينومينولوجيا" لأول مرة عام 1764 من قِبَل المُفكّر والفيلسوف السويسري لامبرت Lambert في كتابه "الأورجانون الجديد" Neues Organon، ثم تحدّث عنها الفيلسوف إيمانويل كانط في عدَّة مناسبات وأهمّها في كتابه "الأسس الميتافيزيقية الأولية للعلوم الطبيعية" (Metaphysische Anfangsgrunde der Naturwissenschaft). ثم بدأ استخدام هذا المُصطلح ينتشر بكثرة في كتابات الكثير من الفلاسفة والمفكّرين أمثال وليام هاملتون، وهيجل وهوسرل، وغيرهم.

لَمْ يَكن الجميع مُتفقين على معنى واحد لمفهوم الفينومينولوجيا، فالكل قد أخضع هذه المفردة لما يراه من تفسيرات. الفيلسوف كانط أشار إلى مفهموم الفينومينولوجيا في كتابه "المبادئ الميتافيزيقية الأولى للعلم الطبيعي"، حيث كان يعني بها "دراسة الحركة من منظور المراقب"، وهذا المعنى يختلف عمّا قدَّمه المُفكّر هوسرل الذي أخضع هذه المفردة إلى مزيد من البلورة وإعادة الصياغة؛ وفي العموم تشير مفردة الفينومينولوجيا إلى ظواهر الوعي، بمعنى دراسة الوعي من خلال الظواهر الخارجية وأسلوب إدراك العقل لتلك الظواهر (الموضوعات).

وهوسرل الذي يُعَدّ من أعلام الفلسفة الحديثة قدَّم هذا المفهوم بطريقةٍ تحمل جانبي العُمق والوضوح، فقد عرَّفها على أنّها: "المنهج الدارِس لظهور الماهيات في الوعي، ويقصد بالماهيات الحقائق الموضوعية للأشياء طالما كانت مُتميَّزة عن طابعها الحسّي".

فالفينومينولوجيا إذن لا تعني العمليات والتداخلات التي ترافق الذهنيّة الإنسانية والمُتعلّقة بالجهاز العصبي، بل كما بيَّن هوسار في موضع آخر أنّها "العِلم الذي يدرس خبرة الوعي، خبرته بالأشياء، وخبرته بذاته". بكلمةٍ آخرى، إنّها الكيفيّة والقدرة لدى الذّات الإنسانيّة، والتي من خلالها يُدرك الموضوع بموضوعية ويقينيّة تامّة، فالعمليّة إذن تشير إلى الوعي حصراً، وليست الخبرة التجريبيّة، وذلك من خلال بناء الفكرة التي تستند إلى الأشياء والوقائع نفسها لا إلى الأحكام التي تشير إليها.

إنّ جميع ما خلق الله هي حقائق وثوابت (موجودات بذاتها، كما أسماها كانط) هي بطبيعتها التكوينيّة غير مُدرِكة وواعية لما يُحيط بها (استناداً إلى الفلسفية الوضعيّة)، عكس الوعي الذاتي للإنسان، فهو لأنّه يمتلك وعياً لوجوده الذاتي فهو بذلك واعياً لما يحيط به من موجودات، لذلك فإن الوعي الذاتي للإنسان له تجليّات ومنها قدرته على أن يَعِي ويُدرِك قيمة الموجودات التي من حوله على أنّها موضوعات، وبكلمةٍ أخرى، على الإنسان أن يعي حقيقة وجود الأشياء من حوله بصفاتها ويتفاعل مع ظواهِرها الخارجية بإدراك (عِلماً أنّها تحمل وعياً بذاتها).

ولأنّ الإنسان هو القُطب والمحور، ولأنّه يحمل وعياً لوجوده الذاتي، فلا يمكن له أن يبقى في دائرته خالٍ من الوعي لما يحيط به من موجودات، فهو الركيزة لبلوغ الكمال المجتمعي، ولأنّ الفرد هو نواة المجتمع، وما لم يتفاعل بوعي وبصيرة مع باقي الأفراد البشرية والموجودات فإن الوعي المجتمعي سيُصاب بالعَوَق والضمور الفكري، وسيكون سبباً في تأخّره عن رَكْب الحضارة.

إنّ الإنسان وبحُكم طبيعته الخلقيّة يمتلك ذاتاً وموضوعاً في آنٍ واحد، وأنّه يُدرِك الموضوع من خلال الارتباط الخارجي ولأنه يُدرِك الموضوع فهذا يعني أنّه يحمل وعياً لوجوده الذاتي، بل وللإنسان القدرة على إدراك غيره من البشر حينما تتوافر العلاقة والتواصل الإدراكي بينهما، وهو بطبيعته انسجام وتواصل بين وعيين وعقلين، يتبادلان الأدوار كسائِل ومُجيب (على سبيل المثال).

إن إدراك الإنسان للموضوع يكون من خلال الوعي الحسيّ باستخدام الحواس الجسدية من رؤية وسمع ونُطق وشعور. وهذا كلّه لا يُدرَك إلّا حينما يَعِي الإنسان ذاته، فلا الموضوعات تُدرَك ولا العلاقات الإنسانية تمتَدّ وتتواصل ما لم تتجذَّر لدى الإنسان حقيقة وعيه بذاته.

بل إنّ البعض قد ذهب أبعد من ذلك عندما اعتبر أنّ الوَعي الذاتي ليس عملاً عقلياً صرفاً، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنس موريس ميرلوبونتي بقوله: (نظرية الظواهر ترتبط ارتباطاً مباشراً بوعي الذات، فهو ليس حقيقة خارجية خالِصة، ولا عملاً عقلياً صَرْفاً)، والذي يُعدّ تحدياً لرائد الفلسفة الحديثة ديكارت الذي يقول "أنا أفكِّر إذن أنا موجود".

وعليه فوعي الذات هو نقطة الانطلاق نحو الفكر البنَّاء الذي يستطيع من خلاله الإنسان وبحُكم الكمّ المعرفي الذي يحمله أن يتواصل مع الوعي المفاهيمي لأفرادٍ آخرين داخل المجتمع الواحد، ليشكّلوا بذلك الركيزة لبناء القاعدة المعرفيّة لتكون الأساس لتشييد صروح المجتمع المعرفي ليبلغ بذلك قِمَم الحضارة وليُناطِح السحاب عِلماً وتقدّماً وازدهاراً.

والصراع يعتبر الحقيقة الجوهرية التي أجمع عليها أهل الفكر والفلسفة، حيث اعتبره  إيمبيدوكليس أنّه الوجه الآخر الذي  يُضاف إلى الحب حيث يكوّنان القوّة المُحرّكة لهذا الكون، والذي قال إن عناصره أربعة وهي الماء والهواء والتراب والنار، وأن الوجود يستمر من خلال الانسجام والتناسُق بين هذه العناصر والتي تخضع إلى الارتفاع أو الانخفاض تبعاً لقوّتي الحب أو الكُرْه حيث أنّ الصراع هو أحد تجلّياته.

وعندما يأتي الحديث للفيلسوف الألماني هيجل  Hegel كونه أحد الفلاسفة المثاليين فإنّه يعتبر الفكر مقدماً على المادة فكانت رؤيته الفلسفية هذه مَبنيّة على فكرة المُطلَق، لذلك نراه ومن خلال أطروحاته الفلسفيّة في الصراع والتي يشير إليها بالمثالية الموضوعية Objective Idealism، كونه يميل إلى تجسيد الفكر على الواقع.

والعقل البشري بصفته مَلَكَة إنسانيّة وَهِبَة ربّانيّة فإن له بالإضافة إلى القدرات الفردية تأثيرات اجتماعية، وأنّ هذا العقل حينما ينفض عنه غبار الجهل والتخلّف والخمول واللاأباليّة فإنّه يتحوّل إلى وعي يرفد به ذاته ومجتمعه من أجل استنهاضهما معاً من خلال الإصلاح والرقيّ الذي اختصرها هيجل بمراحل ثلاث وهي وعي الذات في ذاتها ولذاتها ومن أجل ذاتها، وهذه المراحل تتعلّق بالمراحل العُمرية لتطوّر الذات وهي سنّ الرُشد والمُراهقة والنضوج.

والسؤال هنا لماذا يشهد العقل الإدراكي والوعي الإنساني مرحلة تراجُع وانحدار وتسافل؟ ولماذا تحوّل هذا الوعي الذي كان في فترة من الزمن وعياً تنويرياً إلى وعي يعيش التبعيّة والتقليد؟ وما تأثير ذلك في حسم الصراع حول القضايا المصيريّة؟

اليوم يخضع وعي الذات إلى عملية تجهيل وَمَحو ممنهج من قِبَل المؤسَّسات الرأسمالية، حيث ترى أحد أهم تجلّياتها وهي العولمة التي تكتسح البلاد َوَتستَرِقّ العباد خدمة لمجموعة من المُتحكّمين الذين يلجأون إلى الإعلام بكافة أنواعه من أجل تحجيم دور العقل والسيطرة على الوعي الإنساني وترويضه خدمة لمصالحهم ومنافعهم، وتحويله إلى مخلوق مُنْكِر لذاتِهِ فتغيب عنه المواضيع التي من حوله وليتحوّل شيئاً فشيئاً من موجود يمتلك وعياً لوجوده الذاتي إلى موجود بذاته غير مُدرِك وواع لما يحيط أو يُحاط به. أرادوا للوعي أن يكون رقماً مستهلكاً، غير مُبدِع ولا مُنتِج، بل يعيش دوّامة الحياة مهرولاً وراء حاجاته اليومية بعيداً عن ذاته وواقعه الحقيقي.

لا غرابة أن نرى ما يُصيب الوعي من تردٍ، كيف لا وهو الذي يُعدّ مِن أهمّ أدوات الدفاع في ميادين الصراع من أجل الحفاظ على حرية الإنسان وكرامته وحقّه في العيش، حقٌ أقرّته له جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعيّة، فأبت الأنظمة البوليسية، وأدواتها القمعيّة إلّا أن تنال منه، بَعد أنْ أيقنت أنّه سلاح بالغ الخطورة وعلى البشريّة أنْ تتخلّى عنه.

ومنذ عقود من الزمن ونحن نَشهد إنعكاسات وارتدادات لعمليّة تغييب وعي الذات، فقد أنتَجَت لنا وَثَنيّة سياسيّة، وجهلاً أعمى، يتحوّل فيه الحُرّ إلى عَبْد، وتُقدّس الحُكّام، وتُوَظّف العقول لتُصبح أدوات من أجل إقطاعيّي السياسة والمّال، فلا تبقى للإنسان بعد وعيه أية صفة للإنسانية، فيفقد لُغة الحوار من أجل البناء، فيكون بذلك عاجزاً عن البناء، وليتحوّل المجتمع إلى أكوامٍ بشريّة يسودها التجهيل وتغلب عليه لغة القطيع بدلاً من لغة الوعي، لنخسر الصراع ولتتيه بنا سفينة البناء من دون دفّة أو شراع.

مُنزلقات خطيرة ودروب مُظلِمة ومقاريض فكريّة وأيديولوجيّات هدّامة علينا أنْ نقي أنفسنا منها وَنَعِي حقيقة مخاطرها، وننتبه إلى عواقبها ونُحصّن أنفسنا بالوعي والإدراك ونُعيد قراءة كلّ المغلوطات الفكريّة بوعي جديد؛ وعيٌ يُحتّم علينا أن نترك للجمال المُزيّن بالحريّة فُسحَةً في عقولنا وقلوبنا؛ وعيٌ نقرأ من خلاله إنْ لم يكن في الدّين شعارُ لا مرحباً بالطغاة فهو دين مغشوش ومُستَنسخ؛ وَعيٌ نَرفض فيه الظلام ونكمل السّير لنرسو على ضفاف نهر قد ملأته أشعةّ الشمس أطيافاً تزهو بالحرّيّة؛ وعيٌ لا نخشى فيه الموت حينما يكونُ الثّمن هو الحريّة، عندها وعندها فقط نكون قد كسبنا الصراع وعلى أوسع ميادينه، إنّه ميدانُ وَعيُ الذات.