سلاح الجو الإندونيسي.. بين المناورة وتعديل مصادر التسليح
جاكرتا تسعى بشكل حثيث لبناء قوة دفاعية كبيرة على المستوى الجوي والبحري، وهو سعي يحمل بين طياته تحديات جمّة، أهمها المخاطرة ببناء قوة دفاعية كبيرة "نظرياً".
-
سلاح الجو الإندونيسي و"الترسانة المختلطة".
خلال المرحلة التي تلت الاشتباكات التي دارت رحاها في أيار/مايو الماضي، بين باكستان والهند - وهي اشتباكات كان الجانب الجوي فيها هو الأهم والأكثر تأثيراً - بدا أن العديد من الدول حول العالم، قد بدأ في ضوء هذا الاشتباك، الذي أبلت خلاله المقاتلات الباكستانية صينية الصنع "J-10C"، بلاءً حسناً أمام مقاتلات سلاح الجو الهندي الفرنسية والروسية الصنع، في إعادة النظر في مصادر تسلحها الحالية على المستوى الجوي، بعد أن ظهرت إمكانية لتحرر هذه الدول من الهيمنة الغربية على سوق المقاتلات الرئيسية العالمي، خاصة في دول أميركا اللاتينية وآسيا.
تأثيرات هذه المواجهة الجوية في هذا الإطار كانت رئيسية وملحوظة في التوجهات التسليحية لعدد من دول هذا النطاق الجغرافي، وتحديداً في كل من إندونيسيا وبنغلاديش والبرازيل وكولومبيا، وهي دول كانت علاقاتها التسليحية مع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ودول غربية رئيسية أخرى، طاغية خلال العقود الماضية - خاصة على المستوى الجوي - لكن أظهرت الدول الأربع خلال الأسابيع الماضية، بوادر خروج عن هذا الخط، وهي بوادر تراوح أسبابها بين "المناورة" للحصول على وسائط جوية أفضل من الجانب الغربي، وبين وجود رغبة "حقيقية" في تعديل وتنويع مصادر التسليح الجوي.
إندونيسيا… سلاح الجو الأكثر تنوعاً في جنوب شرق آسيا
أعلنت إندونيسيا، على لسان وزير دفاعها، سجايفري شمس الدين، أنها تعتزم شراء مقاتلات صينية الصنع من نوع "J-10"، حيث ذكر الوزير الإندونيسي بشكل مقتضب أن هذه الطائرات "ستحلّق فوق جاكرتا قريبًا" من دون أن يقدم مزيداً من التفاصيل عن هذه الصفقة.
بشكل عام، لا يعتبر حديث شمس الدين عن مقاتلات "J-10" تأكيداً نهائياً لانضمامها قريباً إلى سلاح الجو الإندونيسي، لكن بحسب ما هو معلن، دخلت جاكرتا خلال السنوات الأخيرة، في خضم مباحثات للحصول على عشرات المقاتلات الجديدة، لدعم أسطولها الجوي، وهو ما جرى تأكيده في حزيران/يونيو الماضي، على لسان نائب وزير الدفاع الإندونيسي، دومي توفانتو، الذي ذكر أن هذه المباحثات تفاضل بين عدة أنواع من المقاتلات، بناء على السعر الإجمالي ومدى توافق الأنظمة، ومستوى الخدمات المعاونة المقدمة.
التقديرات السابقة كانت تشير إلى أن جاكرتا، تضع ضمن قائمة المفاضلة الخاصة بها، مقاتلات "إف-15" الأميركية، ومقاتلات "J-10" الصينية، لكن الحديث الأخير لوزير الدفاع الإندونيسي، لمّح بأن الاختيار قد وقع على المقاتلات الصينية، وهو الأمر الذي إن تم تأكيده، سيمثل إضافة مهمة على عدة مستويات، فمن جهة تعتبر هذه الصفقة الأولى التي توقعها جاكرتا مع دولة آسيوية فيما يتعلق بسلاحها الجوي، ومن جهة أخرى ستصبح إندونيسيا ثالث دولة مشغلة لهذا النوع من المقاتلات - بعد الصين وباكستان - وأول دولة في جنوب شرق آسيا.
أما على المستوى التقني، فتعد مقاتلات "J-10C" من مقاتلات الجيل 4.5، وتعتبر من أهم منجزات الصين على المستوى العسكري، حيث تتجهز بمحرك متطور ورادار مصفوفة المسح الإلكتروني النشط "AESA"، إضافة إلى قدرات ممتازة على الاشتباك الجوي من خلف مدى الرؤية، تتمثل في صواريخ "PL-15" بعيدة المدى الموجهة بالرادار، التي كانت ركناً أساسياً في الانتصارات الجوية التي حققتها باكستان خلال المواجهة الأخيرة مع الهند.
حتى الآن لا تتوفر معلومات واضحة حول قيمة هذه الصفقة أو بنودها، أو حتى النسخة التي ستحصل عليها إندونيسيا من مقاتلات "J-10"، التي يحتمل أنها ستكون النسخة التصديرية الأحدث "J-10E". ما ترجّحه الأوساط العسكرية الإندونيسية، أن هذه الصفقة قد تشمل شراء 42 مقاتلة، بقيمة إجمالية تصل إلى 9 مليارات دولار، وهو ما أكده مؤخراً وزير المالية الإندونيسي، بوربايا يودي ساديو، لكن حديث الوزير الإندونيسي حمل في طياته عدم وضوح أيضاً، حيث إنه تحدث عن "تخصيص" هذا المبلغ من أجل إبرام الصفقة، من دون أن يوضح إذا ما كانت هذه الصفقة ستشمل فقط المقاتلات، أم أنها قد تتضمن أسلحة وأنظمة قتالية أخرى، وهي احتمالية كبيرة بالنظر إلى أن النهج الصيني دوماً ما يطرح - كنوع من الترغيب - سلسلة متصلة من الأنظمة التسليحية ضمن صفقة واحدة، وهو أيضاً ما أكده نائب وزير الدفاع الإندونيسي، دومي توفانتو، الذي أكد أن الصين عرضت على بلاده أنظمة قتالية متنوعة وقطعاً بحرية.
سلاح الجو الإندونيسي و"الترسانة المختلطة"
على المستوى الاستراتيجي، تؤكد هذه الصفقة - في حالة إتمامها - النهج الذي اتبعته جاكرتا حيال تسليحها الجوي خلال العقدين الأخيرين، وهو نهج مبني بشكل أساسي على "تنويع" مصادر هذا التسليح، بشكل يجمع بين الأنظمة الجوية الشرقية والغربية، حيث تضم في أسطولها الجوي الحالي، 33 مقاتلة أميركية الصنع من نوع "إف-16"، ومقاتلات "سوخوي-27" و"سوخوي-30" الروسية، ومقاتلات "هوك-200" البريطانية، ,"T-50" الكورية الجنوبية، وهو تشكيل قلّما وجد في أسلحة الجو الآسيوية.
اللافت أن هذه التشكيلة ستحل محلها خلال العقود المقبلة، تشكيلة أخرى من المقاتلات ذات المنشأ التركي والفرنسي والكوري الجنوبي، فقد وقعت جاكرتا عام 2022، صفقة قياسية مع فرنسا، بلغت قيمتها 8.1 مليارات دولار، لشراء 48 مقاتلة من نوع "رافال"، ستتسلم أولى دفعاتها العام المقبل، كما أبرمت في وقت سابق من العام الجاري، صفقة مع تركيا لشراء 48 مقاتلة من الجيل الخامس من نوع "KAAN"، في إطار برنامج مدته 10 سنوات يتضمن نقل التكنولوجيا والتجميع المحلي الجزئي. هذا فضلاً عن أن إندونيسيا تشارك منذ سنوات، في برنامج مقاتلات الجيل الخامس "KF-21" من كوريا الجنوبية، وهو برنامج واجه عدة مشاكل على المستوى التمويلي، لكنه تلقى دفعة مهمة في حزيران/يونيو الماضي، بعد توقيع سيول وجاكرتا اتفاقية تطوير مشترك مُعدّلة، قلصت في جهة من مساهمات إندونيسيا التمويلية في هذا البرنامج، لكنها في الوقت نفسه حافظت على دورها كطرف أساسي في عمليات التصنيع. وقد نفذت القوات الجوية الإندونيسية أواخر حزيران/يونيو الماضي، ثاني تحليق تجريبي للنموذج الأولي من هذه المقاتلة.
وعلى الرغم من أن تنوع مصادر التسليح الجوي الإندونيسي، بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وفرنسا وكوريا الجنوبية - والصين ربما - يجعل الأسطول المقاتل الإندونيسي، أحد أكثر أساطيل المقاتلات تنوعًا في آسيا، وهو الأمر الذي يبدو أنه كان مستهدفاً خلال العقود الأخيرة، خاصة في عهد الرئيس الحالي، برابوو سوبيانتو، الذي بدأ منذ تعيينه وزيراً للدفاع عام 2019، بمدّ جسور التواصل مع فرنسا وروسيا وتركيا والصين، لتعزيز التسليح الجوي لبلاده، في ظل تقادم قسم كبير من أسطول المقاتلات التابع لسلاح الجو الإندونيسي.
جاكرتا من جانبها، ترى في هذا النهج، فرصة متجددة لإظهار "استقلالها الاستراتيجي"، من خلال تحديث معداتها الدفاعية من مصادر متعددة، من دون استبعاد أي مصدر رئيسي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يعود بشكل أساسي إلى الرغبة في موازنة التكاليف، وتعزيز الشراكات الصناعية ونقل تكنولوجيا التصنيع، لكن ينطوي هذا النهج على جملة من التحديات متعددة الأوجه.
تحديات أساسية حيال تنويع جاكرتا تسليحها الجوي
حقيقة الأمر أن استمرار جاكرتا في هذا النهج - على المستوى الجوي - قد يوفر لقواتها الجوية مرونة واسعة، لكنه يمثل تحدياً لوجستياً بالقدر نفسه، حيث سيشكل التشغيل المتزامن لمقاتلات من فرنسا وتركيا وكوريا الجنوبية والصين، تحدياً كبيراً في قابلية التشغيل البيني والاستدامة، وعمليات التدريب والصيانة وتبادل البيانات بين الأسراب المختلفة، وهو الأمر الذي تتزايد حدته في حال دخول مقاتلات "J-10" ضمن الترسانة الإندونيسية، نظراً لأن هذا يقتضي جمع منظومات القيادة والسيطرة في سلاح الجو الإندونيسي، بين معايير ربط البيانات الصينية والغربية، حتى تتمكن مقاتلات "J-10" من مشاركة مساراتها مع المقاتلات الفرنسية والتركية والأميركية المنشأ.
يُضاف إلى ذلك، حقيقة أن إندونيسيا قد قامت - على الرغم من التزاماتها ببرنامج مقاتلة الجيل الخامس "KF-21" مع كوريا الجنوبية منذ عام 2015 - بإبرام صفقة مع تركيا لشراء مقاتلة الجيل الخامس "Kaan"، ما قد ينتج عنه تعقيدات تشغيلية على المدى الطويل في ظل الاختلافات التكنولوجية والتقنية بين المقاتلتين، فضلاً عن أن شراء الأسلحة من مصادر عديدة، قد يتسبب في تعقيدات ترتبط باللوجستيات والصيانة والتدريب، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك نظام الدفاع الجوي. ففي عام 2020، تسلمت القوات الجوية الإندونيسية منصتي إطلاق صواريخ أرض-جو متوسطة المدى من نوع "NASAMS"، للدفاع عن العاصمة جاكرتا ومنطقتها الحضرية، ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات، لم تُجرَ أي عمليات شراء أخرى لأنظمة الدفاع الجوي، على الرغم من امتلاك إندونيسيا أكثر من 7.7 ملايين كيلومتر مربع من المجال الجوي، وتزايد التهديدات الجوية، بما في ذلك القواعد الجوية الصينية الجديدة في بحر الصين الجنوبي.
الجانب الجيوسياسي يبقى جزءاً مهماً في عملية الاستحواذ المحتملة من جانب إندونيسيا على مقاتلات "J-10" الصينية، وهو ما يرتبط باحتمالية الخضوع لعقوبات أميركية. ففي فبراير 2018، تفاوضت جاكرتا مع موسكو، على شراء 11 طائرة مقاتلة روسية من نوع "سوخوي-35"، لكن الضغوط والتهديدات الأميركية تسببت بفرض عقوبات على إندونيسيا بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا - المعروف باسم "CAATSA" - في وقف هذه الصفقة وإنهائها بشكل كامل، وهي التجربة التي قد تشير إلى وجود احتمالات كبيرة لضغوط أميركية مماثلة على جاكرتا، في حال اتخاذها قراراً بالمضي قدماً في صفقة المقاتلات الصينية، وخاصة أن سلاح الجو الإندونيسي كان في وقت سابق قد وقع مذكرة تفاهم مع مجموعة "بوينغ" الأميركية، بشأن احتمالية شراء 24 مقاتلة من نوع "إف-15"، وهي مذكرة تطرح - من زاوية أخرى - احتمالية أن يكون الإعلان الإندونيسي المقتضب حول مقاتلات "J-10" رغبة من جاكرتا في المناورة لدفع واشنطن إلى الموافقة على تفعيل هذه المذكرة.
على المستوى الاستراتيجي، يمكن النظر إلى التحركات الإندونيسية الأخيرة في المجال الدفاعي، سواء ما يرتبط بالمقاتلات، أم حتى قيام جاكرتا مؤخراً، برصد تمويل بقيمة 450 مليون دولار، لشراء حاملة الطائرات الإيطالية، جوزيبي غاريبالدي، من زاوية التمسك الإندونيسي بالخطوط العامة لاستراتيجيتها الدفاعية المعلنة للفترة بين عامي 2020 و2024، عنوانها الأساسي مبدأ "الدفاع الأرخبيلي"، الذي يرتكز على بناء قوة دفاعية مستقلة في كل جزيرة إندونيسية رئيسية، بشكل يجعلها قادرة على الدفاع عن المنطقة الأرخبيلية المحيطة بها من أي توغل معادٍ، وهو ما يقتضي امتلاك قدرات قتالية تسمح بتطبيق تكتيكات "منع الوصول" و"منع الدخول" سواء على المستوى البحري أم الجوي، وهي تكتيكات لا تتطلب بالضرورة قدرات عسكرية ضخمة، بل تحتاج بشكل أساسي إلى قوة نارية فعالة، تخدمها شبكة مدمجة ومتكاملة من الأنظمة منخفضة التكلفة نسبيًا، مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ المضادة للسفن والغواصات والدفاع الجوي متعدد الطبقات، لفرض تكاليف باهظة على الطرف المعادي.
في الخلاصة، يمكن القول إن جاكرتا تسعى بشكل حثيث لبناء قوة دفاعية كبيرة على المستوى الجوي والبحري، وهو سعي يحمل بين طياته تحديات جمّة، أهمها المخاطرة ببناء قوة دفاعية كبيرة "نظرياً"، لكن مواجهة تحديات "عملية" على المستوى المالي واللوجستي والتطبيقي، بما قد يؤدي إلى دخول الجيش الإندونيسي في دوامة تطوير دفاعي غير مستدام، ما إن لم يتم ضبط هذا المسار ليصبح أكثر تماسكاً وانضباطاً، وكذا توضيح أكثر فعالية للروابط بين المشتريات الدفاعية والعقيدة القتالية الإندونيسية وعمليات نقل تكنولوجيا الصناعة، بحيث يمكن لإندونيسيا بناء قوة عسكرية مرنة وموثوقة، قادرة على التكيف لمواجهة التحديات الاستراتيجية المستقبلية، ضمن إطار "العقيدة الأرخبيلية"، بشكل أكثر فعالية من حيث التكلفة من محاولة محاكاة قدرات القوى الكبرى في استعراض القوة على نطاق واسع.