"التخلّص من الأفارقة" الوجه الآخر للديمقراطية الأوروبية (2/2)
الديمقراطية الأوروبية الزائفة، لا تهدف لوجود ديمقراطية حقيقية تقود إلى تنمية مستدامة في القارة الأفريقية، وتطوّع كلّ سياساتها من أجل ديمومة تبعية الدول الأفريقية وتغييب البعد الإنساني لحساب الأبعاد الأمنية.
الوجه الآخر للديمقراطية الأوروبية المزعومة لا يتكشّف فقط في الإجراءات والاتفاقيات الاستباقية الرافضة لمجرد دخولهم ووصولهم إلى دول الاتحاد الأوروبي بشتى الطرق، ولكن حتى الذين يقدّر لهم الوصول إلى هناك والإقامة تلاحقهم العنصرية الأوروبية، في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أظهرت نتائج دراسة أجريت في 13 دولة أوروبية أن السود يتعرّضون لتمييز شديد بسبب لون بشرتهم وأصلهم وديانتهم، وأنّ وضعهم في ألمانيا هو الأسوأ في الكثير من المجالات وخاصة عندما يتعلق الأمر بالاعتداءات ذات الدوافع العنصرية.
وخلصت الدراسة التي أجرتها وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية؛ بشأن التمييز ضدّ أصحاب البشرة الداكنة في 13 دولة أوروبية، إلى أن ألمانيا كانت الأسوأ في الكثير من المجالات. وقال نحو 76% من المشاركين في ألمانيا إنهم تعرّضوا لتمييز خلال الأعوام الخمسة الماضية بسبب لون بشرتهم وأصلهم وديانتهم. وأشارت الدراسة أن هذه أعلى نسبة بين الـدول الأوروبية الـ 13، التي جرى استطلاع آراء ذوي الأصول الأفريقية فيها بشأن التمييز والعنصرية.
ووصف مدير وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية ميشيل أوفلاهرتي، نتائج الدراسة بـ "الصادمة". وقال إن "الأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي يتعرّضون للتمييز بشكل متزايد لمجرّد لون بشرتهم"، محذراً من أن "العنصرية والتمييز يجب ألّا يكون لهما مكان في مجتمعاتنا". بدلاً من مواجهة هذه العنصرية والتمييز ذهبت دول الاتحاد الأوروبي إلى الاستدارة صوب إجراءات واتفاقيات تحول دون وصول اللاجئين الأفارقة إلى أراضيها. ولو كانت النتيجة موتهم في الصحراء أو إغراقهم في البحر.
هذه الظاهرة ـــــ التخلّص من اللاجئين الأفارقة ـــــ المتخفّية خلف الديمقراطية الأوروبية الزائفة؛ استوقفت الصحافي والمدوّن الفرنسي "إيف غيلرولت"، فكتب في 25 نيسان/أبريل 2024، يقول: "فضيحة نقل الغرب لنفاياته إلى بلدان يحوّلها إلى "مكبّات" أمر معروف، لكن الجديد الآن هو أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك حصل على رخصة "تصدير المهاجرين، وتمّ شحنهم إلى رواندا مثل الملابس المستعملة".
وذكّر "غيلرولت" بما تعانيه بلدان الجنوب من تلوّث بالنفايات الغربية، متسائلاً من ذا سيهتمّ بالفقراء الذين تعصف بهم أمراض الحضارة، وويلات الاضطرابات المناخية الناتجة في المقام الأول عن إنتاج هذه البلدان المتقدّمة لجبال من النفايات؟ وقال: "مع ذلك يشعر الغرب الآن بالاستياء عندما يرى هؤلاء الضحايا الأبرياء يأتون، وبالتالي تفضّل الدول الأوروبية كنس هذه المشكلة تحت سجادة مستعمراتها السابقة".
انتهاكات وعنصرية برعاية أوروبية
العنصرية الأوروبية، والغربية عموماً، تجاه الأفارقة، والمتجذّرة في العقل الجمعي الأوروبي حالياً، ليست وليدة اللحظة الراهنة بقدر ما هي إرث حضاري تتناقله الأجيال الأوروبية جيلاً بعد جيل، ولعل أحدث حلقات تلك العنصرية البغيضة، ما كشفت عنه منظمة العفو الدولية، في12 كانون الأول/ديسمبر 2017، من اتهامات لحكومات أوروبية بالتواطؤ في قضية توقيف مهاجرين ضمن ظروف وصفتها بـ "المروّعة" في ليبيا.
واتهمت المنظّمة الحقوقية الدولية أوروبا بدعم ما وصفته بأنه "نظام معقّد من الانتهاكات والاستغلال بحّق اللاجئين والمهاجرين"، بهدف منع المهاجرين من عبور البحر المتوسط من خلال توقيفهم بمراكز احتجاز في دول أفريقية، وخاصة في ليبيا، وتعريضهم لانتهاكات جسيمة، بحسب العفو الدولية.
وكان تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة، يونيسيف، صدر في أيلول/سبتمبر 2017، قد كشف "أن المهاجرين الذين تقلّ أعمارهم عن 24 عاماً ويحاولون الوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط يواجهون مخاطر عالية تتعلّق بالاستغلال إذا كانوا من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى".
وأضاف التقرير "أنّ المراهقين والشباب الأفارقة الذين سافروا بمفردهم أو الذين لديهم مستويات أدنى من التعليم كانوا أكثر عرضة لممارسات الاتجار بالبشر".
وأكد تقرير اليونيسيف أن المهاجرين المنحدرين من دول أفريقية ويهاجرون عبر طريق شرق البحر المتوسط، تزيد معدلات استغلالهم أربع مرات مقارنة بالمهاجرين الآخرين، في إشارة إلى أن "العنصرية ربما تكون العامل الكامن وراء زيادة المخاطر بالنسبة لأولئك الشباب"، وفقاً للمنظّمة.
هذه الانتهاكات، التي وصلت إلى حدّ العبودية والاتّجار بالبشر، والتي كشفت عنها التقارير الحقوقية الدولية منذ سنوات، جاءت برعاية أوروبية خالصة، وذلك في سياق اجتماعات قمة أوروبية – أفريقية احتضنها قصر الإليزيه في باريس، نهاية آب/أغسطس 2017، ضمّت قيادات دول ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، والنيجر وتشاد وليبيا.
وخلال هذه القمة، تقدّمت فرنسا، من خلال رئيسها إيمانويل ماكرون، باقتراح عنصري، يقضي بإنشاء مراكز استقبال أوروبية لفحص طلبات اللجوء في البلدان الأفريقية نفسها، وتحديداً في 3 دول منها؛ وهي ليبيا والنيجر وتشاد، بهدف الفصل بين من يحقّ له الهجرة إلى أوروبا، ومن لا يحقّ له ذلك، ومن ثمّ ردع من يرفض طلبه عن محاولة الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
ومن خلال ذلك المقترح الفرنسي، تكون أوروبا، في حال أُنشئت هذه المراكز وتمّ تشغيلها بشكل فعّال، قد تخلّصت من "عبء" استقبال عشرات آلاف المهاجرين الأفارقة، واستقبلت فقط الذين يحقّ لهم اللجوء والهجرة بموجب القوانين الأوروبية.
وتكشف التحرّكات والاتفاقات الأوروبية الأخيرة حول الهجرة واللجوء، عن انتقال أوروبا من مرحلة تمويل برامج تنموية وأمنية في الدول الأفريقية المعنية لحثّ المهاجرين على البقاء في بلادهم ودعم قدرة الحكومات على مراقبة الحدود، إلى مرحلة الضغط على هذه الدول كي تحتجز اللاجئين وتقوم بفرزهم لمنح اللجوء لمن يستحقونه وتوطين الباقين في دول العبور أو إعادتهم إلى دولهم.
الحصاد المُرّ للاستراتيجية الأوروبية تجاه اللاجئين الأفارقة
الحصاد المُرّ لاستراتيجية أوروبا العنصرية واتفاقها المموّل مع بعض الدول الأفريقية لمواجهة تدفّق اللاجئين الأفارقة، وإن بدت في ظاهرها كإجراءات واتفاقيات تعاونية وجماعية، فإنّ الدول الأوروبية في الحقيقة لا تريد أن تكون متورّطة بشكل مباشر في جرائم انتهاك حقوق الإنسان، ولا تريد النكوص باتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئ وبروتوكولها الإضافي لعام 1967؛ لكنها لا تمانع إن فعلت ذلك دول أخرى تتعاقد معها من الباطن.
إن هذه الديمقراطية الزائفة لدول الاتحاد الأوروبي التي يتكشّف وجهها يوماً بعد الآخر وتلك العنصرية الموغلة في الفكر وفي الممارسة، لم تكن طارئة، ولم تكن نتيجة عبء بشريّ أو اقتصاديّ قد يشكّله اللاجئون الأفارقة على القارة العجوز؛ لكنه مزاد سياسي للانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية؛ وظاهرة تتمدّد أفضت في أحد أبعادها إلى صعود اليمين المتطرّف الذي جعل من العنصرية تجاه اللاجئين الأفارقة أحد أهم أجنداته وأولياته ومرتكزاته للحضور في المشهد السياسي الأوروبي.
تدلل السياسات والإجراءات الأوروبية كافة لمواجهة تدفّق اللاجئين الأفارقة أنها لم ولن توفّق إطلاقاً وأن المعضلة لن تحلّ قريباً، وأن هناك مسؤولية أخلاقية وإنسانية وقانونية تتحمّلها الدول الأوروبية تجاه شعوب الدول الأفريقية، فهؤلاء اللاجئون لم يتركوا بلدانهم ويذهبوا صوب المجهول في الصحراء الكبرى بحثاً عن ظروف معيشية لحياة أفضل وفرصة أحسن، إلّا لأنّ الدول الأوروبية التي ضاقت بهم الآن نهبت مقدّرات بلدانهم وسرقت قوتهم؛ وإنّ دوافع هجرتهم وتردّي الأوضاع الاقتصادية في القارة الأفريقية نتيجة حتمية للسياسات الاستعمارية التي خطّتها الدول الأوروبية التي تنظر إلى أفريقيا باعتبارها محلّاً للموادّ الخام.
ختاماً إن الديمقراطية الأوروبية الزائفة، لا تهدف ولا تسعى لوجود وتحقّق ديمقراطية حقيقية تقود إلى تنمية مستدامة في القارة الأفريقية، وتطوّع كلّ سياساتها واستراتيجياتها من أجل ديمومة تبعية الدول الأفريقية وتغييب البعد الإنساني لحساب الأبعاد الأمنية.
وهو ما أدى إلى استنزاف وابتزاز دول القارة الأفريقية ودخولها في صراعات داخلية وخارجية حتى لم يعد أمام شعوبها إلّا ركوب المجهول بحثاً عن حياة كريمة.
وفي طريق تلك الشعوب إلى المجهول؛ قطعت دول الاتحاد الأوروبي الطريق عليها بواسطة اتفاقيات تضمن عدم وصول اللاجئين إليها، بغض النظر عن النتائج أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً حتى وإن كان مصيرهم التيه في الصحراء الكبرى، ومن استطاع منهم الوصول لا يفلت من أنياب العنصرية الأوروبية.