9379 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب على الطاولة: الردع النووي الإيراني بعد هدنةٍ بلا ضمانات

قد يلجأ الكيان إلى انتهاج سياسة الاغتيالات والتخريب، أو إلى تحفيز الإدارة الأميركية لفرض مزيد من العقوبات على إيران، في محاولةٍ لتعديل ميزان الردع سياسيًا، بعد تعثّره عسكريًا.

0:00
  •  طهران تُدرك أنّ الهدوء الراهن لا يعدو كونه التقاط أنفاس.
    طهران تُدرك أنّ الهدوء الراهن لا يعدو كونه التقاط أنفاس.

في مشهد لم يُبنَ على اتفاقٍ سياسي، ولم ينتج عن تفاهمٍ متبادل، ولم تُثبّته أيّ ضماناتٍ دولية، أطَلَّ الرئيس الأميركي، بأسلوبه المعهود المفاجئ والاستعراضي، ليُعلن، بقرارٍ منفرد، عن تهدئةٍ بين الجمهورية الإسلامية والكيان المؤقّت، إثر طلبٍ مباشر من حكومة نتنياهو، وبوساطة قطرية حملت الرسالة إلى طهران، التي رأت في هذه الهدنة إعادة تموضع تكتيكي لا أكثر. بذلك، توقّفت الحرب على أرضٍ من رمالٍ متحرّكة، من دون ترسيم خطوطٍ حمر أو تحديد مساراتٍ لاحقة، بل على وقع الترقّب بين الأطراف، بما يُنذر بمواجهةٍ قد تكون أخطر من الحرب ذاتها.

يُعدّ البرنامج النووي الإيراني في صلب هذه المواجهة، باعتباره ركيزة الردع الرئيسة للجمهورية الإسلامية. وتشير غالبية التقارير إلى أنّه لم يتعرض لأضرارٍ جسيمة، رغم كثافة القصف الذي طال المنشآت النووية. فبحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في أيار/مايو 2025، لا تزال إيران تحتفظ بـ9379 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصّب بدرجاتٍ متفاوتة من النقاء، منها 408.6 كيلوغرامًا مخصّبًا بنسبة 60%، ما يضعها على مسافة خطوة واحدة من إنتاج المادة الانشطارية اللازمة لتصنيع رؤوسٍ نووية عدّة.

تُجمع المصادر الإيرانية على أنّ هذا المخزون نُقل إلى مواقع آمنة ومحكمة التحصين قبيل العدوان، الأمر الذي حمى البلاد من كارثةٍ نووية محتملة، ومنح طهران القدرة على استئناف التخصيب في التوقيت الذي تراه مناسبًا، ووفق الإيقاع السياسي الذي يخدم مصالحها القومية.

لقد مثّلت الحملة العسكرية الصهيو-أميركية خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، إذ استهدفت منشآت نووية خاضعة لرقابة الوكالة الدولية، من دون تفويضٍ أممي أو حالة دفاعٍ مشروع. وقد تقدّمت طهران بشكوى رسمية إلى الأمم المتحدة، متّهمةً الوكالة ومديرها العام بالتواطؤ مع أطرافٍ معادية، بسبب عدم إدانته للهجمات التي تمسّ أسس معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. فما جدوى الالتزام بالمعاهدات الدولية إذا لم توفّر الحماية من القصف؟ سؤال تطرحه إيران أمام العالم، مُلمّحةً من خلاله إلى احتمال مراجعة انخراطها المستقبلي في تلك المعاهدة.

تُدرك إيران أن الحرب لم تُحسم بعد، وأن وقف إطلاق النار ليس إلا هدنة فرضتها اعتبارات الطرف الآخر. لذلك، فإنها تبني اليوم على ما حقّقته من صمودٍ وكفاءة قتالية، ويبدو أنها قد بدأت بإعادة هيكلة بنيتها النووية، وتسريع عمليات التحصين وتوسيع التوزيع الجغرافي للمرافق، بما يُعقّد من أي محاولةٍ للاعتداء في المستقبل.

في المقابل، وقع الكيان المؤقّت في مأزقٍ استراتيجي. فعلى الرغم من زعمه تحقيق "نصرٍ حاسم"، إلا أنه في الحقيقة لم يُنجز أهدافه المركزية. فقد فشل العدوان في تعطيل البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين، ولم تنجح الحملة العسكرية في إرغام إيران على التنازل أو الخضوع، ولا نجحت الضربة المباغتة والمؤامرات الداخلية في إسقاط الجمهورية الإسلامية. بل الأخطر من ذلك، أنّ الردّ الإيراني كشف عن ثغراتٍ خطيرة في منظومة الدفاع الجوي والصاروخي الإسرائيلية، ما وضع حكومة الاحتلال في مواجهة رأيٍ عام بدأ يتفحّص نتائج النصر المزعوم، فلا يجد سوى مزيدٍ من الهشاشة والانكشاف.

تحت وطأة هذا الإخفاق، قد يلجأ الكيان إلى انتهاج سياسة الاغتيالات والتخريب، أو إلى تحفيز الإدارة الأميركية لفرض مزيد من العقوبات على إيران، في محاولةٍ لتعديل ميزان الردع سياسيًا، بعد تعثّره عسكريًا.

لقد فتح العدوان الصهيو-أميركي على إيران الباب أمام مصيرٍ نوويٍّ يتوزع بين مسارين متناقضين: فإمّا أن تستثمر طهران الهدنة لتسريع برنامجها نحو العتبة النووية، وهو احتمالٌ تتزايد مؤشراته يومًا بعد يوم، وإمّا أن تُعيد فتح نافذة تفاوضٍ جديدة، ولكن بشروطٍ أكثر صرامة، انطلاقًا من موقعٍ إيرانيٍ تفاوضيٍ أكثر قوّة بعدما سقطت ورقة الخيار العسكري الأميركي، التي طالما جرى التلويح بها خلال العقدين الماضيين.

لكنّ السياق الإقليمي والدولي، والانهيار العملي للاتفاق النووي، يجعلان العالم أمام فرضية واقعية مفادها أن الهدنة الحالية قد تكون نقطة الانطلاق نحو امتلاك الجمهورية الإسلامية قدرة الردع النووي العلني.

إنّ الهدنة المُعلَنة بلا شروط ولا ضمانات ليست نهاية الحرب، بل هي محطة انتقالية إلى ما هو أعقد. فالحرب الأخيرة غيّرت قواعد الاشتباك، وأعادت رسم توازنات الردع، وفتحت الباب أمام احتمالاتٍ أشدّ وأوسع. ولئن كانت إيران قد خرجت من هذه الجولة أكثر صلابةً واستعدادًا، فإنّ خصومها باتوا أكثر انكشافًا، رغم ما يعلنونه من انتصارات. ويُضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة، حين قررت التدخّل المباشر، فعلت ذلك بهدف ضبط الإيقاع ومنع الانفلات، لا لتكون طرفًا في حربٍ شاملة.

فهل تكون المواجهة المقبلة على طاولة المفاوضات؟ أم هل سنرى مشهدًا جديدًا من التصعيد يأخذ شكل تجربةٍ نووية؟ أو رشقاتٍ صاروخيةٍ أعنف؟

مهما يكن من أمر، فالأرجح أن طهران تُدرك أنّ الهدوء الراهن لا يعدو كونه التقاط أنفاس، في انتظار جولة المنازلة القادمة.