لماذا أغضبت المبعوثة الأممية الأطراف الليبية؟

فشل كل المحاولات والوساطات السابقة في تسوية الأزمة الليبية أوجد لدى الشعب الليبي شكوكاً وانعدام الثقة بأي طرف وأي وساطة وهذا يمتد للبعثة الأممية.

  •  البعثة الأممية تركز على استرضاء الأطراف الليبية.
    البعثة الأممية تركز على استرضاء الأطراف الليبية.

أثبتت الأزمة السياسية المزمنة في ليبيا أن تعقيدات الحلّ سببها المناصفة بين أطراف الأزمة ووسطائها الإقليميين والدوليين، والمفارقة أن البعثة الأممية باتت جزءاً من المشكلة على الأقل من وجهة نظر بعض الأطراف الليبية بدلاً من أن تكون أحد أسباب الحل.

على وقع أزمة سياسية مزمنة وهدنة هشّة وتوتر سياسي وميداني متصاعد تشهده الساحة الليبية؛ تفجرت أزمة جديدة باتت تواجهها بعثة الأمم المتحدة لدعم الحل السياسي في ليبيا، وقد أصبحت موضع انتقادات حادة من بعض الأطراف الليبية تتهمها بعدم الحيادية والانحياز ومحاباة أطراف أخرى كحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. 

الأمر الذي يضع العربة أمام الحصان مرة أخرى، إذ إن الرهانات الكبيرة كانت في الوصول إلى خريطة طريق وحلّ سياسي ومخرج موضوعي مناطة بالبعثة الأممية.

تفجرت الأزمة عقب تقديم المبعوثة الأممية لدى ليبيا هانا تيتيه، إحاطة موسّعة وشاملة وكاشفة أمام مجلس الأمن الدولي هاجمت فيها كل الأطراف الليبية، متهمةً إيّاهم بعرقلة إجراء الانتخابات وإقرار ميزانية، والتسبب في حالة الفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسياسي.

 ووفق رؤية المبعوثة الأممية، فإن عدداً كبيراً من الليبيين يرغبون في عملية سياسية تنهض بالمشاركة الجماهيرية وتمنحهم فرصةً لانتخاب قيادتهم وإنتاج حكومة ذات ولاية واضحة، مشيرةً إلى أن الليبيين فقدوا الثقة في الأجسام الحالية، ويشككون في استعدادها لوضع مصالحها فوق المصالح الوطنية.

هذه الإحاطة التي قدّمتها المبعوثة الأممية، والتي بدت أقرب إلى المكاشفة، تسببت في إغضاب بعض الأطراف السياسية الليبية، وتدحرج هذا الغضب وتدرّج، رسمياً وشعبياً، ما يؤشر إلى أن الأزمة قد تتمدّد وتتعمّق.

 وقد لوحظت حالة من المكاشفة والمواجهة والصدام خلال كلمة المبعوثة الأممية التي وجّهت فيها اللوم إلى الجميع، ومنهم رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح بعد إقراره ميزانية لمدة 3 سنوات بقيمة 69 مليار دينار ليبي لمصلحة صندوق الإعمار ورئيسه بلقاسم، نجل خليفة حفتر، مُطالبةً مجلس الأمن بتوقيع عقوبات رادعة ضد كل من يُعرقل الحل والانتخابات في ليبيا.

وفي أول رد فعل رسمي على الإحاطة التي قدمتها المبعوثة الأممية، طالبت الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي برئاسة أسامة حماد، بطرد البعثة الأممية وموظفيها من ليبيا فوراً، وذلك لتعاملها مع أطراف فاقدة للشرعية، وأن إحاطتها مليئة بالتجاوزات والمواقف المنحازة إلى حكومة الدبيبة، التي وصفها بيان الحكومة بـ"منتهية الولاية".

ورأت حكومة حماد أن بيان البعثة الأممية يتضمن مغالطات وتحريفاً متعمّداً لمطالب الشارع الليبي، متهمةً إيّاها بتضليل الرأي العام الدولي ومحاولة تصوير الحراك الشعبي المناهض لحكومة الدبيبة كعمل عدائي يهدف إلى تقويض جهود التسوية، وهو ما نفته الحكومة بشدة. 

وفي تحميل البعثة ما لا تحتمل ولا تتحمّل، وصف حماد أداء البعثة الأممية خلال السنوات الماضية بأنه لم يُفضِ إلى أي تقدم حقيقي في العملية السياسية، بل أفضى إلى تعقيد المشهد عبر دعم مسارات هشة لا تعكس تطلعات الليبيين، منتقداً ما عدّه "تحايلاً على الحقائق ومحاولة لشيطنة التعبير الشعبي المشروع".

سرعان ما تدحرجت الأزمة وزُجّ بالشارع الليبي، الأمر الذي يعكس عمق الأزمة وأبعادها، إذ خرج عشرات من المتظاهرين واقتحموا مقر بعثة الأمم المتحدة في منطقة جنزور في العاصمة طرابلس، مطالبين برحيل البعثة وإنهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، في مشهد بات الاستقواء بالشارع خياراً واضحاً في حراك احتجاجي يعكس حالة الغضب المتزايدة في الشارع الليبي من استمرار الجمود السياسي وتردّي الأوضاع المعيشية.

 لم تكتف الأطراف الليبية بتسييس الأزمة مع البعثة الأممية فأوعزت إلى أطراف قبلية واجتماعية أخرى للحراك ضد البعثة الأممية، إذ أعلن "المجلس الاجتماعي للمنطقة الغربية"، وهو كيان قبلي غير رسمي منتخب من أعيان القبائل، حالة النفير العام لطرد البعثة الأممية ورفض أي قواعد أجنبية في ليبيا، مؤكداً أن "كل الخيارات مطروحة، بما فيها إعلان الجهاد". 

وأكد المجلس أن التدخل الأجنبي بلغ مداه، وأن البعثة فشلت في تحقيق أي تقدّم ملموس في المسار السياسي، مشدداً على ضرورة العودة إلى مسار "ليبي- ليبي" ينبع من الداخل. وهو ما يتقاطع مع ما طرحته المبادرة الجزائرية لحلّ وتسوية الأزمة الليبية. وبالتالي، فإن جزءاً أصيلاً مما يحدث في ليبيا وينعكس على استمرار أزمتها السياسية له علاقة بحسابات ومحددات الوسطاء الإقليميين والدوليين.

استشعرت البعثة الأممية أن البعض يريد تحويلها من وسيط إلى طرف في الصراع؛ وبالتالي قد تُصبح في مواجهة الشارع الليبي وهو ما اقتضى من البعثة أن تُصدر بياناً في 27 حزيران/ يونيو 2025؛ توضح فيه وتعبّر عن استيائها مما وصفته بـ"التحريض العلني" من قبل بعض الشخصيات السياسية، والذي تجاوز حدود التعبير المشروع ليصل إلى تشجيع الاعتداء على موظفيها وممتلكاتها، وهو ما وصفته بأنه "غير مقبول" ومخالف للقانون الدولي.

وأكدت البعثة احترامها التام لحق الليبيين في التظاهر السلمي والتعبير عن آرائهم، ورفضها لأي أعمال "خارجة عن القانون"، واستعدادها للقاء الأطراف الليبية والاستماع لمطالبهم، كما التزامها بـ"عملية سياسية يقودها الليبيون أنفسهم وتخدم مصالح الشعب كافة".

لم تأت رياح المشهد الليبي بما تشتهي سفن البعثة الأممية، ورغم محاولة البعثة الظهور كوسيط نزيه في بيانها، الذي أكدت فيه انفتاحها على جميع الأطراف وتمسكها بالحوار السلمي، فإن هذا البيان ذاته أشعل جدلاً واسعاً، بعد اتهامها لما وصفته بـ"حملات تحريض وشائعات" تستهدف تقويض جهودها الرامية إلى التمهيد لإجراء انتخابات وطنية وتوحيد المؤسسات.

غضب الأطراف الليبية من البعثة الأممية يعني أن المبعوثة الأممية هانا تيتيه التي تولت منصبها هذا في 20 شباط/ فبراير 2025، لم تنجح ولم تفلح في إحداث اختراق في الأزمة السياسية الليبية، وأن هناك مسافات بعيدة إلى حدّ ما بينها بين بعض الأطراف الليبية.

وتعكس الأزمة الحاصلة بين بعض الأطراف الليبية والبعثة الأممية تلاشي الرهان وتصاعد الشكوك وانعدام الثقة في البعثة الأممية ودورها وفعاليتها لدى قطاعات واسعة شعبية ورسمية ليبية، وأن هناك شعوراً بالإحباط يتزايد لدى الشارع الليبي من إمكانية نجاح الجهود الأممية في إنهاء الأزمة السياسية والانقسام السياسي والانتخابات المؤجلة والمعطلة.

 ووفق المعطيات المتاحة والجمود المتواصل، فإن الأزمة مرشّحة لتتمدّد، حتى وإن أعلنت البعثة الأممية أن لديها خريطة طريق جديدة، إذا لم تفضِ هذه الخريطة إلى حلّ سياسي شامل، فإن النزول إلى الشارع ورفض كل الوساطات والمقترحات قد يصبح خياراً وحيداً أمام الشعب الليبي.

والملاحظ أن البعثة الأممية تركز على استرضاء الأطراف الليبية أكبر وأكثر من تركيزها على الحل، وهذا يعني أن البعثة نفسها تراهن على أن الحل يمكن أن يكون ليبياً- ليبياً. ووفق المحددات والخلافات والأجندات والأدبيات، فإن هذا غير ممكن، فالأزمة الليبية بحاجة إلى فرض حلّ إجباري تقبل به كل الأطراف من خلال الاحتكام للشعب من خلال الانتخابات. 

هناك خيار أمام البعثة الأممية وهو الاستقواء والاستناد والتعويل والرهان على الشارع الليبي ومخاطبته بدلاً من الأطراف السياسية المتسببة في الأزمة والاستنزاف ما بين استرضائها وإغضابها، لا سيما بعدما أعلنت البعثة الأممية، أنها تعتزم إطلاق عملية سياسية تمكّن الليبيين من اختيار قادة جدد للبلاد وإنتاج حكومة موحّدة. ولكن، حتى القفز للانتخابات، يُتجاهل كثير من الاستحقاقات السياسية الليبية أولها إنهاء الانقسام المؤسساتي والسياسي والجغرافي.

ختاماً، إن فشل كل المحاولات والوساطات السابقة في تسوية الأزمة الليبية أوجد لدى الشعب الليبي شكوكاً وانعدام الثقة بأي طرف وأي وساطة وهذا يمتد للبعثة الأممية، غضب الأطراف الليبية من المبعوثة الأممية يعني تمدد الأزمة وتدويلها وتعطيل عملها، وربما حتى منعها من التحرك في بعض المناطق.

 وبالتالي، رفض أي مقترحات قد تقدمها، ما يعني أن ظاهر الغضب من الإحاطة التي قدمتها المبعوثة الأممية أما باطنه فبقاء الحال على ما هي عليه، وتجميد وتعطيل أي جهود ممكنة للخروج من عنق الزجاجة. نجاح البعثة الأممية في تسوية الأزمة الليبية يقتضي بالإضافة إلى استرضاء الأطراف الليبية إلى توافق إقليمي مصري وتركي وجزائري ودولي روسي –أميركي-صيني. أما دون ذلك فلن يكتب للبعثة النجاح، وستبقى كل الأطراف غاضبة.