مستقبل الدور الروسي في أفريقيا عقب أحداث سوريا

استدارة روسيا نحو ليبيا كبديل عبر خلفية القواعد الروسية في ليبيا؛ يعني أن التفكير الاستراتيجي الروسي كان يستحضر كل السيناريوهات التي قد تشهدها المنطقة، بما فيها سوريا.

  • الوجود الروسي في سوريا لم يكن محدوداً أو رمزياً.
    الوجود الروسي في سوريا لم يكن محدوداً أو رمزياً.

أفضت الأحداث، التي شهدتها سوريا، إلى جملة تداعيات وتبعات تجاوزت الجغرافيا السورية، ذلك بأن أحد تفسيرات العلاقات الدولية، في تحالفاتها وامتدادها، تشبه قطع الدومينو، أي أن وقوع حدث في دولة ما يفضي إلى تمدد تبعاته في دول مجاورة. وعلى الرغم من أن روسيا ليست مجاورة جغرافياً لسوريا فإنها ليس في معزل عن التداعيات والتبعات.

 وبالتالي، فإن السؤال هنا يتجاوز الجغرافيا التقليدية، ويتجاوز التبعات القريبة المتعلقة مثلاً بمستقل القواعد العسكرية الروسية في سوريا، ويذهب بعيداً، حيث القارة الأفريقية، ويبحث في مستقبل الدور الروسي في أفريقيا عقب الأحداث التي شهدتها سوريا.

قد يبدو للوهلة الأولى أنه لا توجد علاقة بين مستقبل الدور الروسي في أفريقيا والأحداث التي شهدتها سوريا، وهذا يقتضي الإحاطة بحيثيات كثيرة وكبيرة تربط بين القواعد العسكرية الروسية في سوريا والدور الروسي في أفريقيا.

وهذه العلاقة عبر عنها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في قمة الدوحة الأخيرة، عندما نفى الادعاءات التي تفيد بأن روسيا تُخلي قاعدتها البحرية في طرطوس، ورفضه صور الأقمار الاصطناعية التي أظهرت أن روسيا سحبت سفنها من المنطقة، مؤكداً أن "هذا مجرد تدريب عسكري، لا أكثر". وبالتالي، فإن هناك إعادة تموضع بالنسبة إلى القواعد العسكرية الروسية في سوريا.

هذا التموضع الجديد لا يعني فقط أن روسيا قد تفقد ميزة الوصول إلى المياه الدافئة والإطلالة على البحر المتوسط وتوزيع قواتها وتعزيز حضورها، بل سيعني أيضاً قطع طرق الإمداد والتمدد في القارة الأفريقية، ذلك بأن كل التحركات الروسية "الجوية والبحرية" في اتجاه القارة الأفريقية كانت تنطلق وتعود من دون أي عوائق من القواعد الروسية الموجودة في سوريا.

الوجود الروسي في سوريا لم يكن محدوداً أو رمزياً، لذلك فإن أي إعادة هيكلة لهذا الوجود ستؤثر في الدور الروسي. على سبيل المثال، هناك قاعدتان عسكريتان مركزيتان. الأولى: قاعدة "حميميم" الجوية، التي تقع في اللاذقية، وتبلغ مساحتها 1.6 مليون متر مربع، ويشغل مهبطها الجوي نحو 2800 متر مربع. وتُستخدم محطةً للطائرات التي تنقل القوات الروسية إلى أفريقيا.

والقاعدة الثانية: قاعدة طرطوس البحرية التي توجد فيها منظومة صواريخ أس 300، وتديرها قوة مهمّات البحر الأبيض المتوسط. وتُعَدّ قاعدة طرطوس منطقة انتشار روسيا الوحيدة في البحر المتوسط، الأمر الذي يعني أنها تؤثر من خلالها في موازين القوى في الشرق الأوسط. ومن خلال هذه القاعدة تستطيع روسيا رصد نشاط قوات الناتو.

وتساهم هاتان القاعدتان في جهود روسيا لإظهار قوتها، ليس فقط في داخل سوريا، لكن أيضاً في عموم المنطقة، بما في ذلك ليبيا والسودان وأنحاء أخرى من القارة الأفريقية. وتستخدم موسكو هذه القواعد لإرسال أفراد وإمدادات عسكرية إلى مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من أجل تعزيز نفوذها وحضورها في هذه الدول، على وجه التحديد. ولمواجهة الدورين الأميركي والأوروبي ومحاصرتهما هناك. وبالتالي، فإن القواعد الروسية في سوريا تُعَدّ بوابة موسكو للقارة الأفريقية، وشكلت مدخلاً قريباً جغرافياً ومحدود التكلفة مادياً.

إن أي تبديل أو تغيير أو نقل في موقع القواعد الروسية في سوريا سيؤثر في الدور الروسي في أفريقيا من جهة العمليات الاستراتيجية والإمداد والدعم اللوجستيين والوصول السريع والآمن، وخروج القواعد العسكرية الجوية كـ"حميميم" الروسية من سوريا يعني خسارة كبيرة للعمليات الروسية في أفريقيا، ولاسيما الدول الأفريقية التي لا تمتلك موانئ.

على رغم وجود تطمينات بخصوص مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سويا، فإن هناك ما يُشبه الإجماع على أن أريحية الحركة والتنقل لروسيا لن تكون كما كانت.

وتمتد هذه التقديرات إلى أن هناك تأثيراً سلبياً للأحداث التي شهدتها سوريا في مستقبل الوجود العسكري الروسي هناك، وأن ذلك سيمتد إلى الدور الروسي في أفريقيا ويؤثر فيه، لكن هذا لا يعني انعدام البدائل الروسية في المنطقتين العربية والأفريقية، بل حتى فيما يتعلق بالإطلالة على البحر الأبيض المتوسط.

وبالتالي، فإن نتائج الأحداث في سوريا قد لا تكون سلبية تماماً بالنسبة إلى الدور الروسي، سواء في المنطقة العربية أو القارة الأفريقية. قد تخسر روسيا حضورها ووجودها في سوريا، لكنها قد تكسب ليبيا وتستدير لها، صحيح ليس وفق الفعالية والأريحية ذاتيهما اللتين كانتا متوافرتين في سوريا، لكن تبقى ليبيا في الوقت الحالي خياراً وبديلاً ممكنين ومتاحين لروسيا، ولاسيما أن هناك ارضية وحضوراً روسيَّين في ليبيا. وبالتالي، يمكن لموسكو استخدام القواعد الجوية الليبية في انطلاقها نحو القارة الأفريقية.

وكشفت صحيفة "التليغراف" البريطانية مؤخراً قيام روسيا بتطوير إنشاءاتها العسكرية وزيادة أسلحتها في 3 قواعد جوية في ليبيا، خلال عام 2024، مؤكدة، خلال تقرير تحليل بيانات عبر صور الأقمار الاصطناعية، أن روسيا طورت المرافق في قاعدة براك الشاطئ، وجددت مهبط طائرات مكّن الطائرات العسكرية من الهبوط في القاعدة.

وأكدت الصحيفة البريطانية أن "الطائرات العسكرية الروسية تواصل الهبوط والمغادرة من قاعدتي براك الشاطئ والجفرة في ليبيا، وهو ما يشير إلى أن عمليات تسليم الإمدادات مستمرة، كما أنها أخضعت قاعدة "القرضابية" الليبية لعمليات تجديد واسعة للمدرجات، وعملت على تحصينها وتعزيز الدفاعات المحيطة.

استدارة روسيا نحو ليبيا كبديل عبر خلفية القواعد الروسية في ليبيا؛ يعني أن التفكير الاستراتيجي الروسي كان يستحضر كل السيناريوهات التي قد تشهدها المنطقة، بما فيها سوريا، وأوجد خططاً بديلة، وهذا ما دفع موسكو مسبقا إلى تأسيس قواعد عسكرية وموانئ في بني غازي وسيرت وطبرق.

وبالتالي، في الإجابة عن مستقبل الدور الروسي في أفريقيا، أو تأثير ما شهدته سوريا في هذا الدور وفي الوجود العسكري الروسي، فإن ليبيا تبدو خياراً يضمن بقاء الحضور الروسي في المنطقة العربية، ويحافظ على النفوذ الروسي في القارة الأفريقية، ولاسيما أن ليبيا، بمواردها وموقعها، تُعَدّ إحدى النقاط الاستراتيجية للدور الروسي، عربياً وأفريقياً وأوروبياً، وحتى بالنسبة إلى المياه الدافئة، التي تحتاج إليها موسكو.

تَتشكّل، على خلفية ما سبق، عدة قراءات تُفضي إلى استدعاء بعض السيناريوهات، ومنها مثلاً أنه ماذا لو تكررت الأحداث ذاتها، التي شهدتها سوريا، في ليبيا؟ وفق ما يُعرف بتأثير الدومينو، وهل سيؤثر ذلك في الحضور والدور الروسيَّين في أفريقيا؟، تُجيب عدة شوهد من دول القارة الأفريقية ذاتها، فهذا فيديل غوانجيكا، مستشار رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، عقب الأحداث التي شهدتها سوريا، يقول: إن روسيا ستكون "لديها خطة بديلة"، حتى تظل طرق إمدادها إلى أفريقيا سليمة، سواء عبر استخدام ليبيا نقطة انطلاق أكثر قوة، أو الوصول إلى جمهورية أفريقيا الوسطى عبر الموانئ في الكاميرون أو الكونغو، و"لن تكون هناك عواقب على جمهورية أفريقيا الوسطى". وأضاف أن أفريقيا الوسطى مستعدة لمساعدة الكرملين في إرسال الإمدادات والجنود من روسيا إلى الحكومات في منطقة الساحل إذا لزم الأمر.

وعبّر إبراهيم حميدو، رئيس إدارة الاتصالات لرئيس الوزراء علي الأمين زين، الذي عيّنه المجلس العسكري في النيجر عام 2023، عن الأفكار نفسها، وقال إن "سقوط الأسد لن يُغير علاقاتنا، ويمكن لروسيا أن تجد طرقاً أخرى، من خلال تركيا على سبيل المثال، لدعم النيجر".

عطفاً على ما سبق، فإن تأثير الأحداث، التي شهدتها سوريا، في القواعد الروسية هناك، وارد جداً، لكنه لا يعني انعدام البدائل، وليبيا نموذج. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن علاقة موسكو بالدول الأفريقية لا تبدو هشة، ولا يبدو أنها يمكن أن تتأثر أو تتراجع على غرار علاقة تلك الدول بالولايات المتحدة وفرنسا.

لكن هذا لا يعني انعدام التحديات الأخرى، فالوجود الروسي في ليبيا يُزاحمه هناك الحضور التركي، وعدم الاستقرار والتوازنات الداخلية في ليبيا، والدور الروسي في أفريقيا لن يكون بمعزل عن المنافسة الأميركية، التي تسعى لتحييد الدور الروسي ومحاصرته. وفي كل الأحوال، فإن الأحداث في سوريا ستلقي بتأثيراتها على عموم الدور الروسي، ولن تنحصر في الجغرافيا الأفريقية فقط.

تُختصَر سيناريوهات مستقبل الدور الروسي في أفريقيا في التالي أولاً: بقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا كما هي، واستكمال تحرك روسيا صوب أفريقيا لتثبيت حضورها ودورها هناك، هذا السيناريو ممكن في حال حدوث اتفاق بين روسيا والنظام الجديد في سوريا.

ثانياً: انتقال القواعد العسكرية الروسية من سوريا إلى ليبيا. ثالثاً: تعثر الانتقال الروسي إلى ليبيا، الأمر الذي يعني تجميد التمدد الروسي في أفريقيا، لكن في كل الحالات والسيناريوهات فإن الدور الروسي باقٍ في أفريقيا، ومن المستبعد أن يشهد تراجعاً أو انتكاسة، على غرار الحضور الأميركي والحضور الفرنسي هناك.