ليبيا: هل يُصلح النموذج الفيدرالي ما أفسدته الأزمة السياسية؟

هل يُمكن أن يكون تقسيم ليبيا حلاً للأزمة السياسية؟ وهل يمكن لمُقترح المجلس الرئاسي أن يُمرر؟ وما دلالات توقيته؟ وهل يصلح النموذج الفيدرالي في ليبيا؟

0:00
  • الانقسام السياسي كان متحققاً في ليبيا، لكنه لم يتدحرج إلى تقسيم جغرافي.
    الانقسام السياسي كان متحققاً في ليبيا، لكنه لم يتدحرج إلى تقسيم جغرافي.

تختار الدول بالتوافق ما يُناسبها من أنظمة سياسية فإما تكون وفق الجغرافيا فيدرالية أو كونفدرالية، أو وفق الدستور جمهورية أو ملكية، وبعضها يكون مختلطاً شبه رئاسي، المهم أن الأمر يعتمد على التوافق والاتفاق ولا يكون بالقفز أو استجابة لضغوط ما أو تلبية طلب طرف ما؛ أو باقتراح طرف ما لشكل النظام السياسي، خصوصاً إذا كانت الدولة تعاني في الأصل من أزمة سياسية وانقسام، كما هي حال ليبيا.

والناظر إلى تاريخ ليبيا القديم والحديث، وتحديداً ما قبل استقلالها عام 1952م، يجد أنها مرت بسيناريوهات التقسيم (أقاليم برقة وطرابلس وفزان)، حتى استقلت ونجحت في توحيد تلك الأقاليم، وقُسمت إلى نظام إداري اعتمد المحافظات والبلديات. وبقيت ليبيا على ذلك حتى سقوط نظام القذافي في 2011؛ ليصبح الحفاظ على وحدة ليبيا أحد أهم التحديات التي تواجه المشهد السياسي بمكوّناته كافة.

جرت في روافد المشهد السياسي الليبي منذ سقوط نظام القذافي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، مياه كثيرة استدعت في بعض المحطات السياسية والمفصلية الهامة تقسيمات إدارية للبلاد، وعندما كانت ليبيا تستعد لانتخاب الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور الجديد، تقدمت شخصيات قبلية وسياسية وعسكرية في بنغازي مطالبين بإنشاء حكم اتحادي في ليبيا على غرار دستور عام 1951 الذي قُسمت ليبيا بموجبه إلى ثلاثة أقاليم اتحادية هي: برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب.

وعندما ذهبت ليبيا إلى انتخابات مجلس النواب عام 2014، وبدلاً من أن تُفضي الانتخابات إلى استقرار سياسي، دفعت بظهور شبح التقسيم السياسي والإداري من جديد، وقد أفضى رفض بعض القوى السياسية في طرابلس نتائج الانتخابات إلى إصدار المحكمة الدستورية في طرابلس أمراً بحلّ مجلس النواب الجديد. الأمر الذي أدى إلى تقسيم ليبيا بشكل شبه رسمي بين حكومتين، واحدة في الشرق تعمل من طبرق، وواحدة في العاصمة طرابلس.

لتبدأ في ليبيا أزمة سياسية، اخُتصرت بالرهان على أن الانتخابات قادرة على حلّها وتجاوزها، وبالتالي انتظر الشعب الليبي حدوث مُعجزة التوافق القادرة على حلّ أزمة الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب، والحكومة التي عيّنها مجلس النواب عام 2022 برئاسة أسامة حماد في الشرق.

كان الانقسام السياسي متحققاً في ليبيا، لكنه لم يتدحرج إلى تقسيم جغرافي، ذلك أن عوامل الوحدة الوطنية بين مكوّنات الشعب الليبي أكبر من عوامل التفكك؛ لكن قد لا يكون ذلك كافياً في مواجهة التحديات والمتغيرات والمقترحات السياسية.

في أحدث مُقترح لحلّ الأزمة السياسية الحاصلة في ليبيا، قفز المجلس الرئاسي الليبي إلى طرح نظام الأقاليم الثلاثة (شرق، جنوب، غرب)، ومنح كل إقليم برلماناً خاصاً به، قُدم هذا المقترح على لسان نائب رئيس المجلس الرئاسي موسى الكوني، أثناء لقائه السفير البريطاني لدى ليبيا مارتن لونغدن. ويبدو أن بريطانيا لا تزال تتمسك بسياسة "فرّق تسد". ولا تفسير لطرح الكوني مقترح التقسيم أثناء لقائه مع السفير البريطاني غير ذلك.

دفوع الكوني عن مقترحه تقوم على أن "العمل بنظام الأقاليم الثلاثة في مجالس تشريعية مستقلة، يضمن تحقيق الاستقرار في كل مناطق ليبيا"، وأن "العمل بنظام المحافظات كسلطة تنفيذية يضمن نيل كل مناطق الشعب الليبي ومكوّناته حقوقهم من خلال تسليمها ميزانياتها لإدارة مشاريعها".

بالمناسبة، نظام المحافظات (مصر- والولايات -الجزائر) معتمد إدارياً في بعض الدول العربية، لكن من دون مجالس تشريعية مستقلة وتكون مرجعيته حكومة مركزية تدير البلاد.

المفارقة أن هذا المقترح يرى أن حلّ الأزمة السياسية الليبية ممكن ومتاح ويختصره بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم، هي: برقة في الشرق، وفزان في الجنوب، وطرابلس في الغرب.

والسؤال، هل يُمكن أن يكون تقسيم ليبيا حلاً للأزمة السياسية؟ وهل يمكن لمُقترح المجلس الرئاسي أن يُمرر؟ وما دلالات توقيته؟ وهل يصلح النموذج الفيدرالي في ليبيا؟

دعوات الذهاب إلى نظام فيدرالي في ليبيا لم تقتصر على دعوة الكوني، فالمقترح يُطرح بين الحين والآخر ومنذ سقوط نظام القذافي وقد أعيد طرحه كحلّ عقب انقسام 2014، لكنه لم يحظَ بالقبول، إذ رفضته غالبية الأطراف الليبية، التي ترى أنه يهدف إلى تقسيم ليبيا وتضييع ثرواتها.

وعبّر عن هذا الموقف المجلس الانتقالي الليبي برئاسة مصطفى عبد الجليل، واتهم دُعاة الفيدرالية بأنهم يسعون وراء تقسيم ليبيا. ولكن ذلك لا يعني أنه يفتقر إلى داعمين يرون أن النظام الفيدرالي هو الآلية الوحيدة التي تقود إلى إنهاء الصراع؛ وإن كانت هذه الرؤية سطحية موغلة في البعد النظري، إذ إن الواقع السياسي في ليبيا والذي تتربّص به كثير من الأطراف والقوى الدولية والإقليمية يُعزز فرضية التقسيم. والعوار ليس في النظام الفيدرالي، ولكن في المُدخلات السياسية الحاصلة في ليبيا.

طرح الكوني للنظام الفيدرالي كحلّ للأزمة الليبية لم يُوفق لجهة التوقيت أولاً ولجهة المصدر ثانياً، ذلك أنه لا يفترض بالمجلس الرئاسي أن يتبنى حلاً أو مقترحاً منفرداً، ويعرضه خلال لقاء مع السفير البريطاني من دون التشاور مع الأطراف والقوى السياسية الليبية، ولأن مهمة الهياكل السياسية الليبية بما فيها المجلس الرئاسي هي الإعداد والتمهيد لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية على قاعدة الوحدة الوطنية والتوافق السياسي. ولأن تحديد نوع النظام السياسي وطبيعته ومستقبله يعود إلى الشعب الليبي ومن خلال الانتخابات.

وبالتالي، فإن طرح أي نظام سياسي يتم من خلال الاتفاق السياسي بين الأطراف كافة، ويراعي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ذلك أن مستقبل الشعوب واستقرار الدول لا يُمكن المجازفة فيه بتجريب أنواع النظم السياسية الهجينة، لا سيما أن ما هو مطروح يفضي إلى نتيجة واحدة هي تقسيم ليبيا.

حتى توافق القوى السياسية قد لا يكون مُجدياً أو مُحيطاً بالتداعيات كافة، ففي بعض التجارب، يعدّ شكل النظام السياسي من القرارات المصيرية، وبالتالي يجب أن يخضع لعملية استفتاء شعبي تحظى بالإجماع.

إن طرح نظام الأقاليم الثلاثة بمجالس تشريعية مستقلة واختصاره كحلّ وحيد في ليبيا، وفي حضرة السفير البريطاني المتهمة بلاده بأدوار خطيرة في المنطقة العربية عامة وتفكيكها واستعمارها واستغلالها، وفي المشهد الليبي خاصة، قد يكون مقدمة لمخطط كبير يستهدف تقسيم ليبيا، ذلك أن هناك أطرافاً دولية تهدف إلى منح المجلس الرئاسي الليبي أدواراً تفوق صلاحياته وتستخدمه لتمرير مخططات القوى الدولية في ليبيا.

إن توقيت طرح الأقاليم الثلاثة لم يكن مُوفقاً، ذلك أنه تزامن مع اجتماع مجلسي النواب والدولة في القاهرة، والذي شهد توافقاً على حلول مرضية لجميع الأطراف، تهدف إلى تسريع العملية السياسية وتحقيق الاستحقاقات الانتخابية في أقرب وقت ممكن من دون تدخلات خارجية، أو مقترحات تقسيم إدارية وسياسية وفيدرالية.

وعليه، فإن أي حلّ في ليبيا يجب أن يكون من خلال التوافق واستفتاء الشعب وضمان وحدة ليبيا السياسية والجغرافية من دون إملاءات من الأطراف الخارجية، ومن خلال برلمان وطني موحّد يضمن تمثيل الكل الليبي، وقرار وطني مركزي مستقل وتشريع أساسه وحدة التراب الليبي لا تقسيم المُقسم.