عن فكرة الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية
أعاد طرح قضية الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية فتح النقاش بين الأوساط الفلسطينية والعربية حول ما إذا كان هذا الأمر يخدم النضال الفلسطيني من أجل التحرير، فماذا يمكن القول في هذا المقام؟
عاد إلى الواجهة في الأسابيع القليلة الماضية الحديث عن منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فعلى وقع عملية "طوفان الأقصى" وما أحدثته تلك العملية المجيدة من تغيير في عموم مشهد الصراع العربي-الإسلامي الصهيوني لمصلحة الحق الفلسطيني، بدأت بعض الدوائر الغربية وغير الغربية بتداول هذه القضية بصورة أكثر جدية من ذي قَبْل، إذ نشأ في إثر ذلك حراك دبلوماسي نشط حولها، كانت ذروته تقديم الجزائر، الخميس 18 نيسان 2024، مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو إلى قبول عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة.
وقد حظي مشروع القرار بتأييد 12 عضواً من أصل 15، وامتناع كل من بريطانيا وسويسرا عن التصويت، فيما عارضته الولايات المتحدة مستخدمةً حق النقض "الفيتو"، ليسقط بذلك مشروع القرار كما سقطت مشاريع قرارات كثيرة من قبله.
مهما كان الحال، فقد أعاد طرح قضية الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية فتح النقاش بين الأوساط الفلسطينية والعربية حول ما إذا كان هذا الأمر يخدم النضال الفلسطيني من أجل التحرير، فماذا يمكن القول في هذا المقام؟
قَبْل كل شيء، يجب تسجيل أن نحو 3 عقود من مسار "أسلو" الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية، وأن التنازلات عن الثوابت الوطنية التي قدمتها، وأن الاستجداء المتكرر لمحمود عباس وتنسيقه الأمني الذي بات يرقى إلى مستوى العمالة الوطنية، لم يؤدِ إلى تحقيق مطلب السلطة بطرح قضية قبول عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، فيما أفضى فعل المقاومة الفلسطينية المسلحة الميداني في 7 تشرين الأول إلى تحريك هذه القضية في مجلس الأمن، من دون أن يكون ذلك حتى أحد مطالب المقاومة!
لقد تركزت النقاشات قبيل جلسة مجلس الأمن، في الغالب الأعم، حول المفاضلة بين احتمالين: أن يصدر قرار أممي يعترف بالدولة الفلسطينية من دون تحديد حدودها، ويترك هذه القضية للتفاوض، وأن يصدر اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية يحدد بوضوح حدودها بحسب القرار الأممي 242، أي على حدود الأراضي المحتلة 1967. وقد تبنى البعض وجهة نظر تقول إنَّ هذا الخيار الثاني هو الأفضل، لكونه يحسم قضية الجدل القانوني حول الترجمة الدقيقة للعبارة التي وردت في القرارات الأممية ذات الشأن، فيما إذا كانت "أراضي متنازعاً عليها" أم "الأراضي المتنازع عليها"، ويضيف أصحاب هذه الرؤية بأن لا معنى لاعتراف أممي بدولة فلسطينية لا ينص على حدود الأراضي التي تقع تحت سيادتها.
من الواضح أن هذا النقاش برمته يصلح أن يكون بين مَن كانت حدود مطالباته سقف "أوسلو"، ومَن قد تنازَل بالفعل، أو رضي بالتنازل عن نحو 80% من الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، لا بين مَن يتمسك بالثوابت الإسلامية والعربية والفلسطينية في فلسطين التاريخية بصفتها وقفاً إسلامياً لا يجوز بحال التفريط بحبة تراب واحدة منه، ومَن يقرأ المشروع الصهيوني في فلسطين على حقيقته بصفته امتداداً للهيمنة الاستعمارية القديمة على عموم أوطاننا، وبكونه مشروعاً استيطانياً توسعياً إحلالياً.
وإذا كان النقاش المتعلق باللجوء للأمم المتحدة ينصب على الطعن بأصل مشروعية وجود الكيان الصهيوني، وصلاحية عضويته في الأمم المتحدة، بناءً على عدم تلبيته الشروط التي قرنها قرار الجمعية العامة 181 بالاعتراف به، أو يقتصر على مطالبة مجلس الأمن بإجبار الاحتلال على إنهاء احتلاله الأراضي المحتلة 1967 من دون قيد أو شرط، ومن دون التطرق إلى موضوع الدولة وحدودها، لكان يمكن التعاطي مع هذه الأفكار من حيث المبدأ. أما ما دون ذلك، فيعد أفكاراً مبنيةً بالأساس على التفريط في الثوابت، ودعوةً للسير مجدداً في مسارات "أوسلوية" تم تجريبها وثبت عقمها، بل ثبتت كارثيتها على مشروع التحرر الفلسطيني.
لقد جاء "الفيتو" الأميركي الأخير ليؤكد أنَّ مسار التحرر الوطني واستعادة الحقوق لا يمر من خلال ما يسمى "المجتمع الدولي"، وليعيد تثبيت فكرة أن النظام العالمي بصورته الراهنة منحاز كلياً إلى الغرب الاستعماري، وليس معداً لإحقاق الحق ولا لنصرة الشعوب المستضعفة، فكيف إذاً يقوم الأميركي بإسقاط مشروع يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطينية رغم حديثه الجديد القديم عن حل الدولتين؟
يخوض اليوم الشعب الفلسطيني، مدعوماً بحلفاء إقليميين، ملحمة "طوفان الأقصى" التي لن يكون بعدها كما قبلها، والتي بدأت برسم معالم مشرق عربي مختلف وتبديل ملموس لتوازنات المنطقة بين محورين؛ محور قوى التحرر العربي والإسلامي ومحور صهيوأميركي.
لذا، الأجدى أن تنصب كل الجهود الممكنة على كسب المعركة المحتدمة على مستوى الإقليم حالياً، لا الدخول في متاهات سياسية، الأرجح أن الغرض منها هو تفريغ 7 تشرين الأول من مفاعيله عبر إيهام الفلسطينيين بمشاريع لا تختلف في جوهرها عن مسار "أوسلو" ولن يكون مصيرها بأفضل منه، بعدما فشل العدو حتى اللحظة في إحباط آثار "طوفان الأقصى" ميدانياً.