مؤشّرات انزياح سوريّا الجيوسياسيّ: نهاية سرديّة وبداية اصطفاف
تتّجه سوريا بخطى متسارعة نحو تحوّلٍ جوهريٍّ في موقعها الجيوسياسيّ الإقليميّ، يبدو معه أنّ تقديم تنازلاتٍ كانت تُعدّ من المحرّمات في عهد الرئيس بشّار الأسد قد بات خياراً مطروحاً.
-
تتّجه سوريا بخطى متسارعة نحو تحوّلٍ جوهريٍّ في موقعها الجيوسياسيّ الإقليميّ.
لا يمكن النظر إلى قيام نظامِ حكم الأمر الواقع في سوريا باعتقالِ قياديَّين بارزَين في حركة الجهاد الإسلامي مؤخراً على أنّه حدثٌ عرضيّ، أو أنّه نتيجةٌ لمقتضياتٍ أمنيّةٍ بحتةٍ، كما حاول بعض المعلّقين التهوين من شأنه. إذ تزامن هذا الاعتقال مع اللقاء الذي جمع النائب في الكونغرس الأميركي كوري ميلز برئيس النظام في دمشق، والذي أكد فيه الشرع انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقات أبراهام، بشرط توافر "الظروف المناسبة".
يُضاف إلى ذلك ما أصبح معلوماً بشأن موافقة النظام السوري الجديد على معظم الشروط الثمانية التي وضعتها الإدارة الأميركية مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. ومن هذه الشروط: استكمال تدمير ما تبقّى من الأسلحة الكيميائيّة، والتخلّي عن "دعم الإرهاب"، ووقف التهديد لـ"جيران" سوريا، وخصوصاً الكيان الصهيوني، إضافة إلى الحدّ من "النفوذ الإيراني"، وحظر نشاط الفصائل الفلسطينيّة، والتعاون الأمني مع واشنطن، بما في ذلك السماح بتنفيذ ضربات أميركيّة داخل الأراضي السورية.
إذ كان النظام السوري الجديد قد بعث برسالة مكتوبة إلى الإدارة الأميركية في 14 نيسان/أبريل 2025، تعهّد فيها بعدم السماح باستخدام الأراضي السورية لتهديد أيّ جهة، بما في ذلك "إسرائيل"، كما أكّدت الرسالة تشكيل لجنةٍ خاصّة لمتابعة نشاط الفصائل الفلسطينيّة على الساحة السورية.
يأتي هذا التبدّل في أعقاب تحقيق ما سُمِّي بـ"الثورة السورية" هدفها الأوّل المعلن، والمتمثّل في إسقاط النظام السابق، لتنتقل مباشرةً إلى تنفيذ الأجندة الجديدة لـ"سوريا ما بعد الثورة"، وفي مقدّمتها إعادة التموضع الاستراتيجي، والسعي لدمج البلاد ضمن ما يُعرف بـ"محور الاعتدال العربي"، تحت مظلّة انفتاحٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ على المحور الغربي.
وبذلك،يبدو معه أنّ تقديم تنازلاتٍ كانت تُعدّ من المحرّمات في عهد الرئيس السابق بشّار الأسد قد بات خياراً مطروحاً، وإن كان ثمنه التخلّي عن هويّة سوريا السياسيّة التي ارتبطت لعقود بحركات التحرّر العربي والإسلامي.
في كل الأحوال، ليس الغرض من هذا المقال إعادة الخوض في ما جرى في سوريا على وجه الخصوص، إذ قِيلَ فيه ما يكفي وزيادة، فضلاً عن كونها معركةً خَسِرَتْها البقيّةُ الباقيةُ من أشراف هذه الأمّة وقوى مقاومتها الحيّة، وقد انقضى الأمر.
غير أنّ التساؤل المطروح هنا هو: هل مِن المجدي، أو حتى مِن الصواب، أن نستمرّ في مخاطبة أولئك الذين خاضوا الحربَ على سوريا وليبيا بصفتهم "ثُوّاراً"؟ إذ إنّ الحراك الذي شهِدَتْه هاتان الدولتان قد وُصف، من قِبَل كثيرين، بأنّه كان "ثورةً نقيّةً في سبيل تحرير الإنسان والوطن". فإذا ما كانت تلك هي نتيجةُ الثورات النقيّة والوطنيّة، كما وُصِفَت، فإنّ السؤال الحتميّ يصبح: هل من الحِكمة أصلاً الإقدامُ على الثورة؟ ما دام هذا هو مآلُ الثورات الوطنيّة، يا أيّها "الثوّار الأحرار"؟ لا سيما أن تلك الحراكات قد حقّقت بشكلٍ كاملٍ الهدف الذي قامت لأجله، فقد أسقطت الأنظمة التي كانت قائمةً وباتت تتربع على كرسي الحكم مكانها.
غالباً ما تُثار أربعة ردودٍ رئيسةٍ عند الوصول إلى هذه النقطة في النقاش:
1. أنّ الثورة قد ضلّت طريقَها.
2. أنّ من يحكم اليوم لا يُمثّل الثوّار.
3. أنّ الثورة فعلٌ تراكميٌّ وتصاعديٌّ يمرّ بمراحل، ويُستشهدُ عادةً بالثورة الفرنسيّة في هذا السياق.
4. أنّ المستقبل كفيلٌ بتصحيح مسار الثورة وخلق نتائج مغايرة لما نُعاينُه اليوم.
لعلّ من المفيد تحليل هذه الردود الأربعة بإيجاز:
أوّلاً: القولُ إنّ الثورة قد ضلّت طريقَها
يُعدّ هذا الادّعاء من قبيل الكلام المُرسَل الذي يفتقر إلى السند التحليليّ الجاد. فكلُّ حراكٍ شعبيّ إمّا أن يكون فوضويّاً منذ انطلاقه، وعندئذ يمكن تَفهُّم النتائج العشوائيّة وغير المتوقَّعة، أو أن يكون حراكاً منضبطاً، قد تَشكّل على هيئة ثورةٍ ذات أهدافٍ ومبادئَ محدَّدةٍ سلفاً، تنطلق من رؤيةٍ فكريّةٍ وأيديولوجيّةٍ واضحة، وتَستخدم أدواتٍ معيّنة، وتسلك مساراً ضمن سياقاتٍ داخليّةٍ وأخرى إقليميّة ودوليّة. وفي الحالة الأخيرة، لا يَصحّ القول إنّ الثورة قد "ضلّت طريقَها" لمجرّد أنّ النتائج جاءت مخالفةً لتوقّعات البعض، لا سيّما حين تكون تلك الثورة قد نجحت في تحقيق الأهداف التي أعلنتها منذ البداية. فكيف يُمكن الإقرار بأنّ الثورة قد أَنجزت أهدافَها، ثم الادّعاء في الوقت نفسه بأنّها قد تاهت عن الطريق؟ لا يستقيم هذا التناقض، فإمّا هذه، وإمّا تلك.
ثانياً: من يحكم اليوم لا يُمثّل الثوّار
هذا الزعم لا يتعدّى كونه محاولةً بائسةً للتملّص من مواجهة الحقائق، وذَرّاً للرماد في العيون. فحينما يكون من تَولّى السّلطة بعد ما وُصِف بـ"الثورة النقيّة التقيّة" هم أنفسهم قيادات الحراك ورموزه، الذين حازوا ثقة "الثوار"، وهُتِف بأسمائهم في الميادين، يصبح القول بأنّهم لا يُمثّلون الثورة، قولاً مُجانباً للمنطق، وتدليساً صريحاً على الوعي الجمعيّ.
ثالثاً: الثورة فعلٌ تراكميٌّ يمرّ بمراحل
صحيحٌ أنّ الثورات الكبرى لا تُنجز أهدافها دفعةً واحدة، بل تمرّ بمراحل تراكميّة، إلّا أنّ الاستشهاد بهذه الحقيقة قد بات يُستخدَم في غير موضعه. فالسياقُ الجيوسياسيّ الحاكم لأيّ ثورةٍ يُعَدّ من أبرز العوامل المُحدّدة لهويّتها ومخرجاتها. ومن الخطأ المنهجيّ الجسيم وضعُ الثورات في بوتقةٍ واحدة، من قبيل مثلاً وضع الثورة الفرنسيّة (1789)، والثورة الأميركيّة (1775)، وكومونة باريس (1871)، والثورة العربيّة الكبرى (1916)، والثورة الأوكرانيّة (2013)، وما شهدته سوريا وليبيا من "ثوراتٍ" مؤخّراً من دون تمييزٍ منهجيّ يُذكر، وفي إطارٍ تحليليٍّ واحد على نحوٍ اعتباطيّ.
فالاستدلال بثوراتٍ ذات ظروفٍ وسياقاتٍ متباينة على نحوٍ مُرسَل، من دون النظر إلى الفوارق العميقة في الخلفيّات والبيئات الجيوسياسيّة، لا يُعدّ تحليلاً بقدر ما يُعَدّ إمّا سذاجةً في الرؤية، أو تضليلاً مُتعمَّداً، أو ترديداً ببّغائيّاً لعباراتٍ مُعلَّبة.
رابعاً: المستقبل كفيلٌ بتصحيح مسار الثورة وخلق نتائج مغايرة
يفترض هذا الطرح، ضمناً، أنّ ما أخفقت الثورة الراهنة في تحقيقه اليوم، سيُعاد إنجازه لاحقاً عبر ثورةٍ جديدةٍ قادمة، تُصحّح المسار وتنقض على الواقع الذي أفرزته الثورة السابقة. غير أنّ هذا الافتراض، في جوهره، لا يخرج عن كونه تعليقاً للمأمول على مجهولٍ مؤجَّل، من دون أيّ إطارٍ معرفيّ أو سياقيّ يُحدّد كيف ومتى ولماذا ستقع تلك "الثورة على الثورة". وهل يُمكن اعتبار هذا الرهان إلا نوعاً من تكرار المقولة البديهيّة بأنّ "دوام الحال من المُحال"؟
الأنكى من ذلك أنّ أصحاب هذا الطرح لا يقدّمون أيّ ضمانةٍ حقيقيّة بأن الثورة المقبلة – إن وُجِدت – ستسلك مساراً مغايراً أو تُنتج نتائجَ مغايرة. فهم أنفسهم مَن بشّروا بالثورة الأولى، ودافعوا عنها، وروّجوا لها نظريّاً وسياسيّاً، من دون أن يُظهروا حتى اليوم أيّ استعدادٍ لإعادة النظر في مقارباتهم السابقة، أو مساءلة أدواتهم، أو مراجعة اصطفافاتهم. فكيف يُعوَّل على من أخفق في البارحة أن يكون هو ذاته المُنقذ في الغد؟
إنّ التعويل على المستقبل لتصحيح أخطاء الحاضر من دون محاسبة الذات أو مراجعة المنهج، لا يعدو كونه هروباً إلى الأمام، وإعادةً لإنتاج العطب ذاته بأدواتٍ أكثر عجزاً ومفاهيم أكثر ضبابيّة.
تخوض فصائل المقاومة الفلسطينية اليوم معركةَ التصدّي لحرب إبادةٍ جماعيّةٍ تُشنّ ضد الشعب الفلسطينيّ، في سياق مشروعٍ صهيوأميركيٍّ يستهدف إعادة فرض السيطرة المطلقة على المنطقة وشعوبها، وتقويض كلّ مقومات التحرّر والمقاومة فيها.
وفي خضمّ هذا المشهد، يَغدو الإصرارُ على مخاطبة مَن يعتقل المقاومين ويطارد قياداتهم في سجون "سوريا الجديدة" بوصفهم "ثوّاراً"، تجنّياً فجّاً على معنى الثورة، وإساءةً أخلاقيّةً وسياسيّةً لا تُغتفر، حتّى وإن كان ذلك بحجّة التخفيف عن الأسرى عبر التوسّل بخصالٍ لا يحملها مَن ادّعوا الثورة واعتدوا على أهلها. فمثل هذه الفعلة، بحدّ ذاتها، كافيةٌ لتمييز الثائر الحقّ عن المخرّب، والمقاوم عن العميل، والحرّ عن أدوات الهدم المرتبطة بمشاريع الخارج.
كذلك، فإن التمسّك بالسرديّة المُضلِّلة، التي ما تزال تُصوّر الحدثين السوريّ والليبيّ على أنّهما ثورتان "نقيّتان ووطنيّتان"، رغم ما تكشّف من وقائع دامغة، أو الإمعان في الهروب إلى الأمام عبر إعادة تدوير حججٍ واهيةٍ كتلك الأربع التي نوقشت في هذا المقال، إنّما يُعدّ انتحاراً فكريّاً، لا يخدم سوى طمس الفارق بين الفعل الثوريّ الواعي، القائم على البصيرة والإيمان والفكر، وبين حركات التخريب والفوضى المُقنّعة بشعارات الثورة.
وما يترتّب على هذا الخلط، في الواقع، لا يقتصر على تشويش المفاهيم، بل قد يؤدّي إلى نشر الإحباط والتيه واليأس في وعي أجيالٍ بأسرها، ويَحول دون انبعاثِ أيّ فعلٍ ثوريٍّ حقيقيٍّ يستلهم التجارب ويستند إلى القراءة الدقيقة للواقع.
من هنا، تُصبح المراجعةُ واجباً وطنيّاً، وأخلاقيّاً، بل ودينيّاً أيضاً، لمن أراد أن يُحسن الفهم ويصدق النيّة. سيّما في ظلّ وجود قراءةٍ مغايرةٍ لأحداث المنطقة، قدّمها مَن كانوا، ولا يزالون، في طليعة مقاومة المشروع الاستعماريّ – من قادة فصائل المقاومة الفلسطينيّة في غزّة بجناحيها، إلى قادة المقاومة الإسلاميّة في لبنان، وقيادات أنصار الله في اليمن – أولئك المجاهدين الذين تجسّدت فيهم معاني الثبات والوفاء، وكانوا مصداقاً لقوله تعالى:
﴿منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: ٢٣).
ليس المقصود من هذا المقال الدخول في مناكفاتٍ لفظيّة، أو تسطير انتقاماتٍ أيديولوجيّة، بل السعي إلى وضع الأمور في سياقها الصحيح، وتمييز الثورة الحقّة عن محاولات التزييف، والتشويش، والانزلاق خلف سرديّاتٍ مغلوطةٍ شكّلت إحدى أهم أدوات الحرب الناعمة على وعي الأمّة.
فالثورة ليست صراخاً في الميادين ولا شعاراً مُعلّباً، بل هي موقفٌ معرفيّ، واختيارٌ تاريخيّ، وانحيازٌ واعٍ إلى صفوف الأمّة في معركتها الكبرى من أجل التحرّر والسيادة.
ومن لم يُحسن قراءة التجربة، ولم يُراجع خطأه، ولم يُبصر بوصلته في ضوء تضحيات المقاومين، فليتنحَّ عن مشهد الوعي، ولا يلوّث اسم الثورة بما ليس منها.
وحين تتّضح الاصطفافات، وتتكشّف الحقائق، يبقى الرهان على الذاكرة الحيّة لشعوبنا، وعلى عزيمة المقاومين الذين أثبتوا، قولاً وفعلاً، أنّ الثورات النزيهة لا تُستعار ولا تؤجّر، بل تُصنع بالدم والبصيرة معاً.