رحيل عبد القدير خان الذي أُعجب بتجربة حزب الله

عمل خان، في البداية، مع هيئة الطاقة الذرية الباكستانية، لكن دبّت خلافات مع رئيسها منير أحمد خان، وقوبلت اقتراحاته ببعض التشكيك.

  • تأثَّر خان تأثُّراً شديداً بهزيمة باكستان المُهينة في حربها القصيرة مع الهند عام 1971
    تأثَّر خان تأثُّراً شديداً بهزيمة باكستان المُهينة في حربها القصيرة مع الهند عام 1971

تُوفِّي العالم الباكستاني الدكتور عبد القدير خان، أبو القنبلة النووية الباكستانية، الأحد الماضي. 

لا تكمن عظمة خان في أنه عالِم كان يمتلك كل أدوات المعرفة لصناعة القنبلة النووية فحسب، بل أيضاً في قدرته على إقناع الدولة الباكستانية بتبنّي مشروع السلاح النووي، ورصدها مليارات الدولار لهذا المشروع الذي أدخل إسلام اَباد في نادي القوى النووية.

حاز خان شهادة دكتوراه من الجامعة الكاثوليكية في لوفين في بلجيكا في هندسة المعادن عام 1972، وحصل على وظيفة كمهندس معادن في معمل لتخصيب اليورانيوم في هولندا، حيث كانت تَجري أعمال متطورة في التخصيب للاستخدام في المفاعلات المدنية.

تأثَّر خان تأثُّراً شديداً بهزيمة باكستان المُهينة في حربها القصيرة مع الهند عام 1971، والتي أدت إلى أَسر 90 ألف جندي باكستاني تم إطلاق سراحهم بعد أن تمّ توقيع اتفاق بين رئيس الوزراء الباكستاني علي بوتو ورئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي، وما نتج منه من خسارة باكستان الشرقية من خلال إنشاء دولة مستقلة جديدة هي بنغلادش.

فمنذ تلك اللحظة، بدأ خان يبحث عن وسيلة لمساعدة باكستان على اكتساب قدرات مماثلة لغريمتها الهند. فراسل المسؤولين الباكستانيين، إلاّ أنهم تجاهلوا رسائله، في البدء. في هذه الفترة، كانت باكستان تحتاج إلى مأثرة وإحساس بالكبرياء والفخر، فلقد فقدت نصف سكانها، وأصبحت فقط بلداً من بلدان جنوبي غربي اَسيا، بعد أن كانت تضم 150 مليون نسمة، في بلد يقع في جنوبي شرقي اَسيا، وفي جنوبي غربي اَسيا.

أشعل قيام الهند، في أيار/مايو 1974، باختبار أول سلاح نووي لها، فيما عُرف باسم عملية "بوذا المبتسم"، الحسَّ القومي في باكستان. اعتقد ذو الفقار علي بوتو حينها أن امتلاك القنبلة النووية، بعد خسارة بنغلادش، يشكّل حجر الزاوية لباكستان القومية الجديدة، وأعلن "أن وجود باكستان كأمة يعتمد على التكافؤ مع الهند في امتلاك القوة النووية، وسوف نأكل الحشيش لألف سنة من أجل أن نصنع القنبلة".

في هذه اللحظة، بدأ عبد القدير خان مشروعه النووي، بعد أن أبدى رئيس الوزراء، حينها، ذو الفقار علي بوتو، اهتمامه برسالة كان بعثها إليه خان في 17 أيلول/سبتمبر 1974، عارضاً مساعدته على صنع قنبلة ذرية، وقائلاً فيها إنه حتى يتسنى لباكستان البقاء دولةً مستقلة، فإن عليها إنشاء برنامج نوويّ.

وتم فعلاً أول لقاء بين بوتو وخان في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه. وجرى الاتفاق على أن يبذل خان أقصى جهده في مساعدة باكستان على امتلاك قنبلة ذرية.

في لقائهما الثاني عام 1975، طلب منه بوتو عدم الرجوع إلى هولندا كي يترأّس برنامج باكستان النووي بعد أن غادرها، وخصوصاً أنه يمتلك معرفة صناعة القنبلة النووية، وفي حوزته قائمة بالمورِّدين الأوروبيين، على نحو أساسي، حتى يتمكّن من شراء الأجزاء المكونة لها.

عمل خان، في البداية، مع هيئة الطاقة الذرية الباكستانية، لكن دبّت خلافات مع رئيسها منير أحمد خان، وقوبلت اقتراحاته ببعض التشكيك، فتوصَّل إلى قناعة مفادها أنه لن يستطيع إنجاز شيء من خلال مفوضية الطاقة الذرية الباكستانية، والتي كانت مثقلة ببيروقراطية مملّة، فطلب من بوتو إعطاءه حرية كاملة للتصرف من خلال هيئة مستقلة خاصة ببرنامجه النووي. وافق بوتو على طلبه في خلال يوم واحد، وتم إنشاء المعامل الهندسية للبحوث في مدينة كاهوتا، على بعد 50 كيلومتراً جنوبي شرقي إسلام آباد. وفي منتصف عام 1976، بدأ العمل في البرنامج.

في عام 1981، وتقديراً لجهوده في مجال الأمن القومي الباكستاني، غيَّر الرئيس الأسبق ضياء الحق اسم المعامل إلى معامل الدكتور عبد القدير خان للبحوث. وما زالت المنشأة النووية هناك إلى هذا اليوم.

كانت واشنطن، في الأصل، لا تثق ببوتو، وتُزعجها شخصيته العبقرية. وكان أكثر ما يُغيظها الحشود الشعبية الهائلة التي تتجمع لتسمع خطاباته التي تجذب الجماهير. لكن، بعد احتمال حصول باكستان على القنبلة النووية، أصبحت واشنطن قلقة، وأرادت أن يكون بوتو خارج السلطة على الفور.

يذكر بوتو في مذكِّراته أن وزير خارجية أميركا الأسبق، هنري كيسنجر، كان حذّره خلال إحدى زياراته لباكستان، في اَب/أغسطس 1976، من الاغتيال، إلاّ إذا تخلّى عن المسألة النووية. وقال له "سنجعلك مثالاً فظيعاً لمن يعتبر". 

من الواضح أن الاستخبارات الأميركية أبلغت إلى كيسنجر، في الفترة بين اللقاءين ببوتو، ماذا كان يجري بالفعل. وأدرك كيسنجر أن بوتو مصمم على الحصول على القنبلة النووية، وأعطى توجيهه إلى العلماء الباكستانيين: اصنعوا القنبلة.

في عام 1976، عيَّن بوتو ضياء الحق رئيساً للأركان، فنفذ الأخير، في ليلة الخامس من تموز/ يوليو 1977 انقلاباً عليه بحُجّة أن حكمه البلاد لم يعد يُحتَمَل، فأعلن قانون الطوارئ ونصّب نفسه حاكماً للبلاد. وُضع بوتو في الحجز، ثم حُكم عليه بالإعدام في 18 آذار/مارس 1979، وتمّ إعدامه في 4 نيسان/أبريل 1979 في السجن في راولبندي.

هناك دراسات كثيرة تؤكد أن الانقلاب عليه وإعدامه نُفِّذا بتدبير من الاستخبارات الأميركية، بسبب مخاوف البيت الأبيض من سياسات بوتو الاشتراكية، وتصميمه على صنع القنبلة النووية.

ويعتقد كثير من الباحثين الباكستانيين أن علاقة ضياء الحق بوكالة الاستخبارات الأميركية تعود إلى خدمته في قاعدة فورت ليفينوورث في ولاية كانساس الأميركية، وإلاّ فلماذا يتم اختيار ضياء الحق ليتولى بنفسه قيادة المفرزة الباكستانية في الأردن في حرب "أيلول الأسود" ضد منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970.

وشبّه وزير العدل الأميركي السابق، المحامي رمزي كلارك، والذي حضر محاكمة بوتو كمراقب، ظروف إطاحته بظروف إطاحة سلفادور ألّيندي في تشيلي عام 1973.

أخطأت واشنطن في حساباتها عندما اعتقدت أنه، من خلال إعدام بوتو وإزاحته عن المشهد، سيتخلى الجيش الباكستاني عن فكرة الحصول على القنبلة النووية، فكانت التوجيهات الأولى لضياء الحق هي السماح للجيش بالإشراف الكامل على منشأة كاهوتا النووية. فصدمة الهزيمة العسكرية، وضياع إقليم البنغال، جعلا الجيش الباكستاني مستعداً لركوب المخاطر لاستعادة كبريائه. لقد كان الجيش الباكستاني يؤيد بوتو، بصورة مطلقة، في حصوله على القنبلة النووية، رداً على تجربة الهند النووية.

كان من حسن حظ المشروع النووي الباكستاني، حصول الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في كانون الأول/ديسمبر من عام 1979 نفسه، فوفّر هذا الحدث الغطاء لباكستان من أجل إكمال مشروعها النووي.

يقول نوبار هوفسبيان، في كتابه "باكستان: الدولة والمجتمع"، إنه منذ التدخُّل السوفياتي في أفغانستان، كانت باكستان، بفضل حدودها المشتركة مع أفغانستان، هي الطريق المتاح الوحيد لإمداد المقاتلين المناهضين للسوفيات بالأسلحة. وأدَّت هذه العوامل إلى مراجعة دقيقة للعلاقات الأميركية ـــ الباكستانية. فخلال مقابلة تلفزيونية في عام 2009، قال خان نفسه إن الحرب السوفياتية ـــ الأفغانية "وفّرت لنا مساحة لتعزيز قدراتنا النووية. فنظراً إلى الضغوط الأميركية والأوروبية على برنامجنا، يصح القول إنه لو لم تحدث الحرب الأفغانية في ذلك الوقت، فإننا كنا لن نتمكَّن من صنع القنبلة في وقت مبكّر، كما فعلنا".

في عهد الرئيس الباكستاني برويز مشرف، حدثت ضغوط أميركية على باكستان. وحاول مشرف، في سياسته المعهودة، احتواء الاتهامات الأميركية، فأجبر خان على الاعتراف بمساعدته إيران وكوريا الشمالية في السابق. وأُجريت له محاكمة صُوَرية قضت بسَجنه خمسَ سنوات في الإقامة الجبرية. وفي اليوم التالي، أصدر مشرف العفو عن خان رضوخاً أمام الضغوط الشعبية الباكستانية، التي تعتبر خان بطلاً قومياً في باكستان. 

رحل خان، لكنه ترك أسرار صنع السلاح النووي عند العلماء والدول التي كان يعتقد أنها يجب أن تحذو حذو النموذج الباكستاني. لقد كان رجلاً عقائدياً، وزار دولاً عربية وعرض مساعداته، بحسب ما وصفه محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية.

في 16 أيار/مايو 2011، نشرت مجلة "نيوزويك" الأميركية بياناً لخان قال فيه "نشأ دافع باكستان إلى (امتلاك) أسلحة نووية، من الحاجة إلى منع (ابتزاز نووي) من الهند. لو كان العراق وليبيا قوتين نوويتين، لَما دُمِّرا بالطريقة التي شهدناها أخيراً... لو كانت (باكستان) تمتلك قدرة (ذرية) قبل عام 1971، لَما كنا لنفقد نصف بلدنا بعد هزيمة مشينة"، في إشارة إلى سلخ "باكستان الشرقية"، التي ستُعرَف لاحقاً باسم بنغلادش.

يروي أحد المراسلين الدوليين في صحيفة "الأهرام" المصرية أنه، بعد انتصار لبنان عام 2000 على العدو الإسرائيلي، سافر إلى إسلام اَباد والتقى عبد القدير خان، وأجرى حواراً معه، وسأله "هل صنعتَ القنبلة النووية لتكون باكستانية أم إسلامية؟"، فأجابه قائلاً: صنعناها لتكون قنبلة نووية باكستانية في مواجهة القنبلة النووية الهندية.

وأكمل المراسل أسئلته، بقوله: ما نصيحتك لدول العالم الإسلامي كي تمتلك أسلحة نووية؟ فأجاب: لا داعي للدول الإسلامية أن تصنع الأسلحة النووية، لأن ذلك يُرهق اقتصاداتها، فهي مكلفة مالياً، وتحتاج إلى ميزانية بمليارات الدولارات.

وأردف المراسل: إذاً، ما نصيحتك لدول العالم الإسلامي كي تحقّق الأمن القومي والردع من دون أن تمتلك السلاح النووي؟ فقال خان: على دول العالم الإسلامي أن تعتمد على ذاتها، وتحذو حذو حزب الله. لقد انتصر هذا الحزب على "إسرائيل" عام 2000، بالاعتماد على الذات، ومن دون أيّ أسلحة نووية.