باكستان: هل يعود عمران خان مظفراً إلى الحكم؟
صدرت عن عمران خان عدة تصريحات تنتقد بشدة السياسة الأميركية تجاه بلده باكستان.
يمكن اعتبار عمران خان حالة استثنائية من بين رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على باكستان على مدار العقود الماضية. فهو أتى من خارج إطار الأحزاب التقليدية التي تناوبت على الحكم، بالتحديد حزب الشعب التابع تاريخياً لآل بوتو، وحزب الرابطة الإسلامية الذي أسسه وتزعمه آل شريف. كما إنه من خارج المؤسسة العسكرية.
النجاح الباهر الذي حققه عمران خان في الانتخابات عام 2018 وأوصله إلى رئاسة الحكومة كان، في الواقع، تعبيراً عن ملل الباكستانيين، ويأسهم من الطبقة التقليدية الحاكمة التي تميز زعماؤها بالفساد واللصوصية في الداخل، وبالتبعية والارتهان لقوى أجنبية (بالتحديد أميركا والسعودية).
صبر عمران خان وصمد طويلاً في خضم التجاذبات الداخلية إلى أن تمكن أخيراً من إقناع غالبية الباكستانيين، وخصوصاً الجيل الشاب منهم، بأن وقت التغيير قد حان، فاندفعوا إلى التصويت له بعد أن جذبتهم شعاراته عن "محاربة الفساد" والحاجة إلى خلق "باكستان جديدة" تتمتع بالكرامة وتحظى بالاحترام.
وعلى المستوى الشخصي، يختلف عمران خان عمن سبقه، فهو ليس سليل عائلة إقطاعية مثل بنازير بوتو، ولا هو مثل زوجها البلطجي ورجل العصابات عاصف علي زرداري، كما يختلف عن النهّاب الفاسد نواز شريف حوت المال والأعمال، ويختلف طبعاً عن جنرالات الجيش ضياء الحق وبرويز مشرف.
عندما عاد بطل الكريكيت الوسيم الذي تزوج ابنة اللورد البريطاني غولدسميث، من بريطانيا واستقر في بلده، اتجه إلى السياسة مستغلاً شعبيته الكبيرة، بعد أن حقق لباكستان كأس العالم عام 1992. ولكن نجاحه كان محدوداً، فالحزب الذي أسسه عام 1996 "الإنصاف" PTI لم يحصد في الانتخابات سوى مقعد واحد، هو مقعد خان ذاته، واستمر كذلك لعدة دورات متعاقبة إلى أن كان النجاح الكبير عام 2018 حين حصل على 16.9 مليون صوت في الانتخابات، ما مكّنه من تشكيل حكومة ائتلافية برئاسته.
انتقادات لأميركا
صدرت عن عمران خان عدة تصريحات تنتقد بشدة السياسة الأميركية تجاه بلده باكستان، وفي العالم بشكل عام، وحتى قبل تسلمه منصب رئاسة الوزراء. وكانت أفغانستان موضوعاً لكلام شديد صدر عن عمران خان. رفض عمران خان إقامة قواعد عسكرية أميركية في بلاده "لمحاربة الإرهاب"، وعارض بشدة الهجمات بطائرات من دون طيار التي كانت تشنها الولايات المتحدة على أهداف "إرهابية" داخل باكستان، وقال إن بلاده "دفعت ثمناً باهظاً بسبب السياسة الأميركية في أفغانستان".
وفي حزيران/يونيو 2021، قال خان لجريدة "واشنطن بوست" الأميركية " إن هجمات الطائرات الأميركية من دون طيار، والتي حذرت منها، لم تجعل واشنطن تربح الحرب (في أفغانستان)، لكنها تسببت في كراهية للأميركيين، ما أدى إلى تضخم صفوف الجماعات الإرهابية".
علاقات استراتيجية أقوى مع الصين
عدا عن الموضوع الأفغاني والسياسة الأميركية في ذلك البلد، أثار عمران خان حفيظة الولايات المتحدة حين اتجه لتقوية العلاقات بالصين، وخصوصاً في المجال الاقتصادي. ورغم أن العلاقات الباكستانية – الصينية قديمة ووثيقة منذ ما قبل عمران خان، سار بها خطوات إلى الأمام، وزاد من التمحور الباكستاني الحاسم مع الصين؛ تعبيراً عن اقتناعه بأن مستقبل باكستان يرتبط ببكين لا بواشنطن.
بعد شهرين فقط من توليه منصب رئاسة الحكومة، توجه عمران خان إلى بكين لتدعيم انخراط باكستان في "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني"، وهو برنامج استثماري هائل للبنية التحتية بقيمة 62 مليار دولار، يجعل الصين محوراً للتنمية الاقتصادية في باكستان. وعند اجتماعه مع الرئيس الصيني شي جينبنغ، في قاعة الشعب الكبرى، في بكين، قال خان "إنه جاء إلى الصين كي يتعلم" كيفية مواجهة الصعوبات الاقتصادية".
وفي شباط/فبراير 2022، عاد عمران خان إلى الصين في زيارة جديدة أطلق خلالها تصريحات لافتة عبّر فيها عن مدى إعجابه بالإنجازات والتجربة الصينية في التنمية، وقال إنه في المرحلة الجديدة من مشروع الممر الاقتصادي، تتطلع باكستان إلى تعميق تعاونها مع الصين في مجالات المناطق الصناعية وتكنولوجيا المعلومات والزراعة. وأضاف أنه "من خلال التنمية الاقتصادية المستمرة والمستدامة، تحسنت حياة الشعب الصيني بشكل كبير، وأن إنجازات الصين في التخفيف من حدة الفقر لم تحدث في تاريخ البشرية من قبل".
ووصف خان الصين بأنها نموذج يحتذى به في العالم، قائلاً "لقد كان نمواً شاملاً في الصين. فعندما نمت الصين، نما السكان جميعاً معها. لكنّ ذلك، للأسف، لم يحدث مع كثير من دول العالم، حيث يزداد الغني ثراء والفقير فقراً".
حرص عمران خان على دحض الدعاية الزائفة للغرب ضد منطقة شينجيانغ الأويغورية ذاتية الحكم في الصين، وقال إن معين الحق، السفير الباكستاني لدى الصين، زار شينجيانغ العام الماضي، و"أرسل لنا معلومات تفيد بأن هذه (الدعاية الغربية) غير صحيحة على أرض الواقع". وهذا الموقف لاقى تقديراً في الأوساط الصينية، خصوصاً أنه صادر من زعيم إحدى أكبر الدول الإسلامية في العالم.
في خلال رئاسة دونالد ترامب، ظهرت معالم تغيير في استراتيجيات منطقة جنوب آسيا وتحالفاتها. تحسنت العلاقات الأميركية-الهندية، وتوثقت في ظل زعامة نارندرا مودي، في مقابل تصاعد العلاقات الباكستانية – الصينية. هذه المستجدات والتطورات تخالف ما كانت عليه الحال في المنطقة على مدار عقود مضت.
علاقة إيجابية بإيران
إيران أيضاً انضمت إلى المشروع الاقتصادي الصيني الضخم، مبادرة الحزام والطريق، ووقعت اتفاقية استراتيجية طويلة المدى مع الصين في آذار/مارس من العام الماضي. وقد تزايدت وتيرة التعاون بين إيران وباكستان، في السنوات الأخيرة، في ظل رئاسة عمران خان للحكومة. وحدث تنسيق كبير بين البلدين في إطار دول جوار أفغانستان، وتم إبرام اتفاقية الأسواق الحدودية بين إيران وباكستان. وقام البلدان بتدشين معبر حدوديّ ثالث بينهما، واستئناف خطّ القطار الذي يربط بين إسلام آباد وطهران.
قاوم عمران خان ضغوطاً سعودية للحد من العلاقة بإيران، وخصوصاً على الصعيد السياسي. ورفض خان، بشدة، فكرة تطبيع العلاقات بين بلاده والكيان الصهيوني، في تناقض صارخ وتحدٍّ لتيار التطبيع الخليجي الذي تقوده دولة الإمارات، ويحظى بموافقة ضمنية من السعودية.
حدثت زيارات عديدة متبادلة بين كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإيرانيين والباكستانيين خلال حكم عمران خان، الذي تبنى وزير خارجيته شاه محمود قريشي مواقف إيجابية جداً تجاه إيران. وزار خان إيران في عام 2019، وعرض نفسه وسيطاً لتهدئة الأمور بين السعودية وإيران، وخصوصاً بشأن المشكلة اليمنية التي اتخذت باكستان تجاهها موقفاً محايداً، ورفضت الانخراط في المجهود الحربي السعودي في اليمن.
الخلافات مع السعودية
العلاقة بين السعودية وباكستان تاريخية ووثيقة جداً، وترجع إلى بدايات تأسيس الدولة الباكستانية وحروبها مع الهند، واستمرت على مدى أكثر من ستة عقود. ولكن العلاقات الثنائية لإسلام أباد مع الرياض وصلت إلى أدنى مستوياتها في التاريخ في ظل حكم عمران خان.
تفاقمت الخلافات بينهما لأسباب كثيرة، كان منها التوجّه السعودي المتزايد نحو الهند، وخصوصاً مع اليمين الهندي العنصري ممثلاً برئيس الوزراء نارندرا مودي المعادي للمسلمين، والمتشدد تجاه باكستان طبعاً. استقبلت السعودية في بداية 2019 مودي بحفاوة بالغة. وبالتأكيد، فإن ذلك التوجه السعودي لم يكن ينظر إليه بارتياح في إسلام أباد التي كانت تنتظر من السعودية دعماً لقضية المسلمين في كشمير مع تزايد ضغوط اليمين الهندوسي، وإذ بها تتفاجأ بعلاقات مطّردة بين الرياض ومودي.
وفي منتصف 2019، ظهرت أمارات الإحباط الباكستاني من السياسات السعودية واضحة جلية في أثناء زيارة عمران خان السعودية؛ للمشاركة في القمة الإسلامية، التي يبدو أنه حضرها على مضض. فقد لاحظ المراقبون أن رئيس الوزراء الباكستاني بعد أن صافح العاهل السعودي، تحدث إلى المترجم مباشرة بدلاً من الحديث مع الملك كما إنه انصرف على عجل، ولم ينتظر حتى ينتهي المترجم من نقل حديثه للملك سلمان. ذلك التصرف "غير اللائق" من طرف عمران خان ترك أثراً سلبياً، بلا شك، في الأوساط السعودية، التي رأت فيه نوعاً من قلة الاحترام.
وفي أواخر 2019، كانت باكستان على وشك المشاركة في القمة الإسلامية التي دعت إليها ماليزيا، وضمت كل خصوم السعودية: إيران، وتركيا وقطر لولا أنها تراجعت في اللحظة الأخيرة. ويومها صرح الرئيس التركي إردوغان بأن باكستان تعرضت لضغوط من السعودية تمثلت في تهديد الرياض بسحب الودائع السعودية من البنك المركزي الباكستاني، وترحيل 4 ملايين باكستاني يعملون في السعودية، واستبدال العمالة البنغالية بهم، ما دفع عمران خان إلى التراجع عن حضور تلك القمة.
في عام 2020، بلغ الغضب الباكستاني من موقف السعودية تجاه قضية كشمير حداً غير مسبوق، وصل إلى أن يصرّح وزير الخارجية شاه محمود قريشي بأن على "منظمة التعاون الإسلامي"، ومقرها السعودية، أن تعقد اجتماعاً وزارياً بشأن كشمير، وإلّا فإن باكستان ستعقد اجتماعها الخاص! تصريحات قريشي كشفت للعلن مدى التدهور الذي وصلت إليه علاقات بلاده بالسعودية، التي صار ينظر إليها في باكستان بأنها "باعت" قضية كشمير في سبيل علاقاتها المتنامية مع الهند.
ورغم تدخل الجيش الباكستاني في محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه من العلاقة بالحليف التاريخي لباكستان عن طريق زيارة رئيس الأركان الجنرال قمر جاويد السعودية، لكن ما حدث في كانون الأول/ديسمبر 2020 يشير إلى أن العلاقة كانت ما زالت متوترة بين الطرفين. فقد طالبت الرياض إسلام أباد، وضغطت عليها بشكل غير معهود، سداد دفعة مستحقة من قرض قديم، ما دفع رئيس الوزراء عمران خان إلى اللجوء إلى الصين، والحصول منها على مبلغ مليار دولار دفَعَهُ للسعودية بشكل نزق!
هل تآمرت أميركا لإنهاء حكم عمران خان؟
يؤكد عمران خان أنه تعرض لمؤامرة أميركية أدت إلى إسقاطه في نيسان/أبريل الماضي. ويقول خان إن أميركا لجأت إلى ممارسة نفوذها على السياسيين الفاسدين في باكستان، واستخدمت أسلوب الرشى والضغوط على الأحزاب الباكستانية لجعلها تتكتل في مواجهة عمران خان وائتلافه الحاكم، إلى أن نجحت أخيراً في نزع ثقة البرلمان عنه بأغلبية بسيطة.
وكدليل على ذلك، تحدث خان عن برقية واردة من السفارة الباكستانية في واشنطن قال فيها السفير إن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون جنوب ووسط آسيا أنذره في اجتماع بينهما بأن الولايات المتحدة لن تقبل باستمرارية عمران خان في الحكم، وأن العلاقات بين الجانبين لا يمكن أن تعود طبيعية ما دام خان في رئاسة الحكومة. فهل حدث ذلك بالفعل؟ هل تدخلت أميركا بشكل مباشر لإنهاء حكم عمران خان؟
بالنظر إلى سلسلة الخلافات بين الجانبين، والتي تعكس تبايناً جدياً في توجهات الطرفين، نميل إلى الاعتقاد بأن ما يقوله عمران خان صحيح، وأن أميركا بالفعل كان لها دور رئيسي في إسقاط حكومته في نيسان/أبريل الماضي.
والتدخلات الأميركية في شؤون الدول الأخرى ليست أمراً جديداً، بل حدثت مراراً وتكراراً، وأحياناً بأساليب أشد وأعنف مما جرى في باكستان. والطريقة التي أسقطت بها حكومة خان غير طبيعية وتثير الريبة! إذ تجمّع الخصوم الذين بينهم عداوات تاريخية (حزب آل شريف وحزب آل بوتو)، واتفقوا على إسقاط خان، وتآلفوا معاً لتشكيل حكومة بديلة بشكل سريع جداً.
وحتى ذلك الاجتماع المريب بين المتناقضين لم يكن كافياً، فكان لا بد من انشقاق عدد (قليل) من نواب حزب عمران خان حتى ينجح الانقلاب الدستوري. تلك الأمور كلها لا يمكن أن تحدث لولا وجود "مايسترو" يدير المعركة ضد خان وحكومته من خلف الستار.
"لسنا عبيداً لكم"
لقد كان موقف عمران خان من الأزمة الروسية – الأوكرانية القشة التي قصمت ظهر البعير، ودفعت أميركا إلى التحرك ضده، والذي جاء في أعقاب قرار خان الاستمرار في زيارته المقررة مسبقاً لروسيا، ولقائه فلاديمير بوتين في اليوم ذاته الذي بدأت فيه العمليات العسكرية. رفض خان إلغاء زيارته لموسكو، رغم الطلب الأميركي الملحّ.
وفي رده على الرسالة التي وجهها سفراء دول الاتحاد الأوروبي إلى وزارة الخارجية الباكستانية، مطالبين باكستان بالتصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة، قال عمران خان في خطاب علني موجّهاً حديثه للغربيين "ماذا تعتقدون؟ هل نحن عبيد لكم، نفعل أي شيء تقولونه؟"، وأضاف مؤكداً أن باكستان ستظل محايدة.
عودة عمران خان؟
لم يستسلم عمران خان، ولم يرفع الراية البيضاء. ومنذ إزاحته عن رئاسة الحكم، اتجه إلى الشعب مباشرة، طالباً منه الدعم والمؤازرة في مواجهة "الخونة والعملاء والفاسدين"، بحسب وصفه، والذين قفزوا إلى الحكم بتدبير أميركي. وفي أول انتخابات تجري في باكستان منذ إطاحة حكومته، نجح حزب "إنصاف" في تحقيق نتيجة مبهرة بكل معنى الكلمة.
كانت انتخابات فرعية في ولاية البنجاب حيث حصد حزب عمران خان 15 مقعداً من أصل 20 جرى التنافس عليها. وأهمية الانتخابات هذه أن ولاية البنجاب تشكل وحدها نصف عدد سكان باكستان، ولها بالتالي النصيب الأكبر في مجلس البرلمان. عدا عن أنها معقل تاريخي لحزب الرابطة الإسلامية الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف.
ضرب عمران خان على وتر المشاعر القومية للباكستانيين الذين يرون فيه أملاً لإخراج بلادهم من مستنقع الفساد والتبعية، الذي تعاني منه منذ عقود، وهو يجني ثمار مواقفه الوطنية والاستقلالية. الباكستانيون يريدون مكاناً يليق ببلدهم الكبير كأمة محترمةٍ في هذا العالم.
باتت عودة عمران خان إلى الحكم، بحسب كل المؤشرات، مسألة وقت لا أكثر، حين تعقد الانتخابات العامة في السنة المقبلة، هذا إن صمد الائتلاف الهجين الذي يحكم باكستان إلى ذلك الوقت، وهو أمر مشكوك فيه.