باكستان وخطورة التموضع بين المتناقضين

تتموضع باكستان بين المتناقضين، مستغلةً الدعوات إلى التهدئة بين العملاقين، التي أطلقها المسؤولون في البلدين عقب لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والصيني.

  • باكستان وخطورة التموضع بين المتناقضين
    باكستان وخطورة التموضع بين المتناقضين

دعا رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف تركيا إلى الانضمام إلى مشروع الممرّ الاقتصادي بين بلاده والصين، الذي تبلغ كلفته مليارات الدولارات. وقال شريف في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عقب محادثات بينهما في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 في إسطنبول، تخللتها مشاركة الجانبين في مراسم إنزال سفينة حربية إلى البحر صنعتها تركيا لمصلحة باكستان، إن "الصين وباكستان صديقان حميمان يستفيدان من الممر الاقتصادي بين البلدين في إطار مبادرة الحزام والطريق للرئيس الصيني شي جين بينغ"، مقترحاً أن "تتعاون الدول الثلاث في إطار هذه المبادرة".

منذ عام 2014، استثمرت الصين ما يقارب 28 مليار دولار في مشاريع مختلفة للطاقة والبنية التحتية في باكستان ضمن إطار الممر الاقتصادي، ما سمح لثاني أكبر اقتصاد في العالم بالوصول إلى المياه الدافئة لبحر العرب عبر ميناء جوادر في مقاطعة بلوشستان التي تقع جنوب غربي باكستان. 

قد تكون الدّعوة الباكستانية تهدف إلى إقامة تعاون مشترك يجلب الازدهار والتقدّم إلى هذه المنطقة بكاملها، إذ إنَّ مشاريع كهذه تساعد في التخفيف من حدّة الفقر والبطالة وتحسن جودة التعليم، لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: "هل باكستان قادرة فعلاً على تعبيد طريق الحرير من دون رضا الولايات المتحدة الأميركية، من خلال تموضعها بين المتناقضين؟".

ألمح شريف إلى أنَّ بلاده تريد أن تبني صداقة متينة بين كلّ من تركيا والصين بهدف إنجاح المشروع الاقتصادي الّذي - إن مرّ بسلام - سيزعزع استقرار الاقتصاد العالمي برمّته، ويكرّس الصين في المرتبة الأولى لقيادة العالم، ما سيقوّض كل الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الخارجية الأميركية لتطويق مساعي الصين التوسعية.

 لهذا، يرى البعض أنّ من أهداف الانسحاب المفاجئ للجيش الأميركي في أفغانستان، إعادة حركة "طالبان" إلى الحكم لخلق حالة من اللااستقرار في منطقة آسيا الوسطى لضرب مصالح الدول المتحالفة مع الصين، وعلى رأسها إيران وروسيا.

في قراءة هادئة وتاريخيّة للعلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان، يتبيّن للباحث أنَّها علاقة متينة، إذ أقامت الولايات المتحدة علاقات ثنائية مع باكستان عام 1947، أي بعد شهرين من نيلها استقلالها، فكانت الولايات المتحدة من بين أولى الدول التي بادرت إلى إقامة علاقات مع هذه الدولة الوليدة.

بدأت العلاقة تشهد توتراً مع دخول روسيا حربها ضد أوكرانيا، ما دفع الرئيس الباكستاني السابق عمران خان إلى زيارة روسيا، وتأكيده للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّ بلاده لن تكون تابعة لسياسات الولايات المتحدة، الأمر الذي أدّى إلى إسقاط حكومته في البرلمان الباكستاني.

قد تبدو علاقة شريف بالصين انفتاحية – تعاونية، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي، إلا أنّ تلك العلاقة تهدّد مصالح الولايات المتحدة، وخصوصاً أن شريف يدعو تركيا إلى حلف ثلاثي لصنع نظام اقتصادي يعتمد على المنافسة الجديّة لاقتصاد الولايات المتحدة.  

يدرك شريف جيداً أنَّ الساحة الدولية تعيش انقساماً عمودياً، ما لا يسمح للدّول بأن تتنقل بين المتناقضين الصيني والأميركي، فإردوغان يدرك فشل تلك الخطوة، إذ إنه يعاني في الشمال السوري عدم قدرته على أخذ ضوء أخضر من اللاعبين الأميركي والروسي للبدء بعمليته ضد الكرد المتموضعين على الحدود التركية، فالأميركي يقوم بحماية "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ذات الأغلبية الكردية، والروسي يطلب من إردوغان المستحيل، وهو لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد للتنسيق بينهما من خلال ترك الأمر لسوريا في إدارة النظام القائم.

 تحتاج الولايات المتحدة إلى المحافظة على علاقتها الجيّدة بباكستان، الدولة النووية، في وجه روسيا والصين وإيران على حدّ سواء. لهذا، قد تعتمد الدبلوماسية الأميركية نهج العصا والجزرة مع حكومة شريف لردعها عن السير في ركب طريق الحرير الصينية كي لا تخسر حليفاً إستراتيجياً وتاريخياً في منطقة آسيا، وخصوصاً أنَّ الولايات المتحدة تحتاج إلى باكستان في لعبة "فرض التوازن" مع الهند التي يتجه مسؤولوها إلى الانخراط في "قمة شنغهاي" الاقتصادية الصينية. 

تتموضع باكستان بين المتناقضين، مستغلةً الدعوات إلى التهدئة بين العملاقين، التي أطلقها المسؤولون في البلدين عقب لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والصيني في قمة مجموعة العشرين في بالي - إندونيسيا، إذ تعهّد الرئيس الأميركي جو بايدن أمام نظيره الصيني عدم اندلاع "حرب باردة جديدة" مع الصين.

إذا قرأ شريف هذا التموضع انفتاحاً بين الدولتين، فهو قارئ غير جيد، لأن الولايات المتحدة تحتاج إلى شحذ موقف أكثر صرامة من القيادة الصينية تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا، فالإدارة الأميركية تسعى إلى تطويق روسيا دولياً، بعدما فرضت مع حلفائها الأوروبيين عقوبات أممية عليها. لهذا، تتوسل التهدئة المؤقتة مع الصين، كي تزيد ضغطها على بوتين لوقف حربه على أوكرانيا. 

دعوة باكستان لتركيا إلى الانخراط في مشروع "الحزام والطريق" قد لا تلقى الصّدى المطلوب، لأنّ السلطات في تركيا على يقين بأنَّ الولايات المتحدة لن تسمح لهذا الطريق بإكمال طريقه أسوةً بخطّ إمدادات الغاز الطبيعي الروسي "نورد ستريم 2" الذي عارضته الإدارة الأميركية بشدة، وامتعضت من قرارات الحكومة الألمانية إزاءه. واليوم، بات هذا الخط معطلاً بسبب الانفجار الغامض الَّذي أصابه في بحر البلطيق.

من هنا، إنَّ تموضع شريف قد لا يطول، إذ قد يلقى مصير عمران في حال استمرّ باللعب على المتناقضين من دون أن يأخذ خياراً في الاصطفافات الدولية القائمة.