خطة ترامب ودروس التاريخ

خطة ترامب ليست الأولى من نوعها في تاريخ صراعنا مع قوى الاستعمار، فقد شهدنا خططاً شبيهة في فلسطين والعراق، وكلها انتهت بالفشل وتحولت إلى فصول في كتب التاريخ.

0:00
  • في باطن الأحداث جمراً ينتظر الفرصة ليتحول إلى لهيب.
    في باطن الأحداث جمراً ينتظر الفرصة ليتحول إلى لهيب.

وفرت خطة ترامب للسلام في غزّة مادة إعلامية وسياسية خصبة تشغل المحللين والراصدين لفترة من الزمن، وقد تتحول إلى موضوع إعلامي يغطي ساعات بث طويلة، حال وصل إلى مرحلة التطبيق.

كثيرون وجدوا في خطة ترامب المخرج الوحيد لأزماتهم، فسارعوا إلى الإعلان عن قبولهم بالخطة كما هي، بل إن سلطة رام الله شكرت للرئيس ترامب جهوده في سبيل تحقيق السلام. أما جمهور المقاومة، فتنتابه حالة من القلق، إذ يعلم أن المقاومة تركت وحيدة بعد الضربات التي وجهها العدو إلى جبهات الإسناد، فهي بين مطرقة الوضع الإنساني الناجم عن حملة الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو في غزّة، وسندان الضغوط السياسية المباشرة وغير المباشرة التي يمارسها الأعداء والأشقاء عليها.

يفيدنا التاريخ بأن خطة ترامب ليست الأولى من نوعها في تاريخ صراعنا مع قوى الاستعمار، فقد شهدنا خططاً شبيهة في فلسطين والعراق، وكلها انتهت بالفشل وتحولت إلى فصول في كتب التاريخ، يرويها الباحثون والمؤرخون، واستمر نضال الشعوب في سبيل تحررها واستقلالها رغم الهزائم والمؤامرات وتوحش المستعمرين.

في فلسطين، وفي تشرين الثاني من عام 1935، اقترحت بريطانيا تشكيل مجلس تشريعي يتكون من 28 عضواً؛ 11 من المسلمين، 3 من المسيحيين، و7 من اليهود، و5 موظفين بريطانيين، على أن ترأسه شخصية محايدة من خارج فلسطين. بعد هذا الاقتراح بأشهر قليلة، كانت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939). 

في العراق، نصّبت الولايات المتحدة بول بريمر حاكماً على العراق، فقام بحل الجيش العراقي، وسهّل نهب ثروات العراق، وعمل مع أجهزة المخابرات الغربية على تأسيس منظمات إرهابية مثل داعش، استغلها لتبرير استمرار احتلال العراق، ولنشر الفوضى والحروب في المنطقة.

يسعى المستعمرون اليوم لتكرار التاريخ (كمهزلة) من خلال خطة ترامب التي تتغلف بغلاف السلام، لكنها تسعى لوضع يدها على واحد من أهم مفاتيح الوضع في منطقتنا، ممثلاً بالقضية الفلسطينية. لقد أثبت السابع من أكتوبر أن كيان الاحتلال غير قادر على الصمود في المنطقة أمام إرادة المقاومة وفعلها، وأن النظام الرسمي العربي، رغم تواطئه، غير قادر على دعم بقاء الكيان الصهيوني ما دامت هناك مقاومة على الأرض تلهب المشاعر، وتجعل التحرير احتمالا ممكن التحقيق.

لقد أبرز السابع من أكتوبر أزمة المشروع الإمبريالي في منطقتنا، بشقه الاستيطاني ممثلاً بالكيان الصهيوني، وبشقه الهادف إلى الهيمنة على الطرق التجارية والثروات المختلفة، والذي يشكل جوهر هذا المشروع. وأصبح واضحاً أن حل أزمة المشروع الاستعماري لن يصل إلى حل إلا بالقضاء على جميع أشكال المقاومة.

قدمت الدول الاستعمارية الغطاء السياسي والعسكري لكيان الاحتلال ليتحول من رأس حربة إمبريالية في المنطقة إلى قوة استعمارية توسعية تحتل أراضي في سوريا ولبنان، وتعتدي على اليمن وإيران وقطر، وقدمت للفلسطينيين أكذوبة "مؤتمر حل الدولتين" التي قرر سيد البيت الأبيض اقتطاع جزء من حصة الفلسطينيين منه، واحتلاله وإدارته قبل أن يجف حبر قرار مؤتمر الأمم المتحدة، في ظل موافقة عربية وشكر فلسطيني. 

المطلوب استعمارياً تجريد المقاومة من سلاحها، ليس في فلسطين وحدها، بل وفي لبنان وأي مكان آخر من العالم. أما الهدف فهو جعل الشعب أعزل من أي إمكانية أو قدرة على مواجهة المخططات الاستعمارية، سواء كانت بالتهجير وإخلاء الأرض من سكانها الأصليين لمصلحة مشروع استيطاني احتلالي كما هو الحال في فلسطين، أو إخضاع المقاومة لمشروع طائفي انعزالي متناغم مع المشروع الصهيوني كما هو الحال في لبنان، أو إخضاع الخيارات الوطنية للشعوب بالاستقلال والازدهار والتحكم في المقدرات الوطنية، كما هو الحال في إيران أو فنزويلا.

لقد كانت المؤامرات بكل أشكالها إحدى أهم وسائل المستعمرين لتحقيق أهدافهم، وكان تعاون بعض من خانوا أوطانهم والتحقوا بركب الاستعمار في سبيل تحقيق أهدافهم كأفراد أو طبقات أداة استخدمها الاستعمار لاقتحام وعي المجتمعات وتصوير الهزيمة والتبعية كإنجاز يحقن الدماء ويحقق الازدهار بمعناه الضيق، لكن المقاومة ظلت حاضرة في تاريخ الشعوب تخبو حيناً وتشتعل أحياناً، لكنها لا تنطفئ. تنفجر حين لا يتوقعها أحد، وتصنع إنجازات كانت تبدو مستحيلة.

رغم كل اليأس والإحباط الذي يطفو على السطح، إن في باطن الأحداث جمراً ينتظر الفرصة ليتحول إلى لهيب. والثائر متفائل بطبعه. مهمتنا اليوم أن ندعم المقاومة مهما كانت اختياراتها الميدانية، وأن نرفع الصوت دفاعاً عن فكرة المقاومة وعن نهجها، وكما تصدى المقاومون عبر التاريخ للمستعمرين وهزموهم، فعلينا أن نؤمن بأن النصر منوط بنا وبإرادتنا وبفعلنا، بغض النظر عما جرى ويجري على الأرض. الصراع بين الخير والشر باقٍ ما بقيت البشرية، ونحن الخير وهم الشر.