مقاربة مختلفة لإشكالية حصرية السلاح في لبنان
التحدي الأساسي الذي يقوّض سيادة الدولة اللبنانية ليس من الناحية العسكرية ووجود سلاح خارج إطار الدولة فحسب، بل هو مجموعات مبادئ أساسية تخلت فيها الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها.
-
يُشكّل المنظور التقليدي للسيادة أساس الخطاب السياسي للأحزاب السياسية.
منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية، يطرح موضوع سلاح حزب الله على بساط البحث في النقاش السياسي والإعلامي في لبنان. وقد ازداد هذا الأمر بعد إعلان البيان الوزاري مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة"، وهو ما وافقت عليه الكتل اللبنانية المشاركة في الحكومة، بمن فيها وزراء الثنائي.
لا شكّ في أن هناك توافقاً عاماً بين اللبنانيين على تفعيل سيادة الدولة، وحصر السلاح بيدها، وإن اختلفت الأطراف حول السبل لذلك والتوقيت والآليات. من هنا، نجد أن النقاش حول السيادة يمكن أن يطرح العديد من المقاربات التي يغفلها النقاش العام، وخصوصاً ضمن تعريف السيادة ودور الدولة، إذ تنطلق معظم النقاشات من المفهوم التقليدي للسيادة وتغفل مفاهيمها الحديثة المتطورة.
النموذج الكلاسيكي: السيادة كسلطة واحتكار القوة
يؤكد المفهوم التقليدي للسيادة، الذي انطلق من مؤتمرات وستفاليا (1648)، سلامة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وقدرة الحاكم على أن يفعل ما يريد ضمن الأراضي التي يحكمها. ومن ضمن هذا المفهوم، كان هناك بعدان للسيادة: البعد الخارجي والبعد الداخلي.
لاحقاً، حصل تطور في مصدر السيادة الذي تحوّل إلى الشعب، ولم يعد للحاكم المطلق (بأمر إلهي)، وترسّخت فكرة أن الدولة هي المصدر الوحيد للنظام القانوني، وهي الكيان الوحيد المخول بممارسة "العنف الشرعي" (ماكس فيبر). وانطلاقاً من فكرة فيبر، فإن أي جهة فاعلة غير حكومية تحمل أسلحةً إنما هي تحدٍّ مباشر لسيادة الدولة.
النموذج المتطور: السيادة كمسؤولية
شهد أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين تطورًا ملحوظًا في مفهوم السيادة، وخصوصاً في التسعينيات من القرن العشرين، بعد حصول الإبادة الجماعية في رواندا وحروب البلقان، فبرز تضارب بين مفهومي حقوق الإنسان والسيادة.
ورداً على تدخل حلف الناتو في كوسوفو، والدعوات التي صدرت لتطوير مفاهيم عالمية تسمح بالتدخل تحت عنوان "التدخل الإنساني"، قامت الأمم المتحدة بمبادرة لمناقشة موضوع التضارب بين مبادئ حقوق الإنسان والسيادة.
صدر تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول عام 2001، وحمل عنوان "مسؤولية عن الحماية"، واعتبر أن سيادة الدولة تنطوي على مسؤولية مزدوجة: خارجيًا، احترام سيادة الدول الأخرى، وداخليًا، حماية سكان الدولة من المجازر والفظائع.
ومع هذا المبدأ، الذي تمّ إقراره في القمة العالمية عام 2005، تحوّلت السيادة من "حق وسلطة" للحاكم إلى "مسؤولية" الدولة تجاه مواطنيها. وقد طوّر مفكرو العلاقات الدولية هذا المفهوم في السياق الداخلي، فاعتبروا أن السيادة تستلزم "مسؤولية الحماية protect"، و"مسؤولية التزويد provide"، و"مسؤولية ضمان رفاهية وأمن جميع المواطنين" (دنغ وآخرون، 1996). وعلى هذا الأساس، عندما تعجز الدولة أو لا ترغب في الوفاء بهذه المسؤوليات، تتآكل شرعيتها بشكل جذري، ما يخلق فراغًا غالبًا ما تكون الجهات الفاعلة غير الحكومية على استعداد تام لملئه.
الحالة اللبنانية
منذ الاستقلال، عانت الدولة اللبنانية من ضعف في بسط سيادتها على كامل أراضيها، إذ واجهت تحديات مثل الوجود المسلح في المخيمات الفلسطينية وفي الجنوب (فتح لاند)، ثم تفكك السلطة المركزية في الحرب الأهلية مع صعود الميليشيات، والاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني (1982-2000)، وصولاً إلى مرحلة النفوذ السوري المباشر. هذا المسار التاريخي ساهم في إضعاف مفهوم الدولة كمرجعية وحيدة للشرعية، ومهّد تدريجياً لنشوء نظام سياسي موازٍ يستمد قوته من الولاءات الطائفية والحزبية أكثر مما يستمدها من مؤسسات الدولة.
حالياً، يُشكّل المنظور التقليدي للسيادة أساس الخطاب السياسي للأحزاب السياسية، وكذلك جزءًا كبيرًا من خطاب المجتمع المدني الذي انبثق من حركة احتجاجات عام 2019. تنطلق هذه المقاربة السياسية من أن سلاح حزب الله يشكّل تهديدًا لسيادة الدولة اللبنانية، والحل: يجب على الدولة بسط سلطتها، ونزع سلاح الحزب، ودمج جميع قدراته العسكرية في الجيش اللبناني الرسمي.
على الرغم من مبرراتها، فإن الرواية تلك، وإن كانت سليمة منطقيًا من منظور قانوني تقليدي، إلا أنها تنطوي على نقطة ضعف بالغة الأهمية، إذ تتعامل مع السيادة كمسألة سلطة وسيطرة فحسب، متجاهلةً التحول العميق في النظرية السياسية والقانون الدولي نحو فهم السيادة كمسؤولية من قبل الدولة اللبنانية تجاه مواطنيها وأرضها.
إن سيادة الدولة اللبنانية يجب أن تنطلق ليس فقط من احتكارها للعنف الشرعي وحصر السلاح بيدها فحسب (وهو مبدأ مقبول من الجميع)، ولكن يجب أن يمتد- إضافة الى ما سبق- إلى مسؤولية الدولة عن الحماية (حماية الأرض والمواطنين من الاعتداء وحماية حقوقهم من المعتدين عليها (مثلاً حمايتهم من السطو الذي حصل على ودائعهم)، ومسؤولية توفير (الرعاية والرفاهية) لمواطنيها بغض النظر عن مناطق سكنهم، وعن طوائفهم، وتوفير الخدمات الأساسية (الكهرباء، المياه، الاستشفاء) وتأمين الفرص الاقتصادية.
وعلى هذا الأساس، فإن التحدي الأساسي الذي يقوّض سيادة الدولة اللبنانية ليس من الناحية العسكرية ووجود سلاح خارج إطار الدولة فحسب، بل هو مجموعات مبادئ أساسية تخلت فيها الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها، ما جعلهم يلجأون إلى الأحزاب أو الطوائف لتأمينها.