ثقافة إعادة الإعمار بين السياسة والاقتصاد

الحديث عن عشرات ملايين الأطنان من الركام، والحاجة إلى زمن طويل يقدر بالسنوات لإزالتها، ومن ثمّ المباشرة بإعادة الإعمار، ليس سوى فزاعة تهدف إلى دفع جمهور المقاومة للموافقة على المشاريع الغربية – الصهيونية.

0:00
  • أخطر ما يواجه ثقافة إعادة الإعمار هو محاولات البعض تصوير هذه الحرب كأنها الحرب الأخيرة.
    أخطر ما يواجه ثقافة إعادة الإعمار هو محاولات البعض تصوير هذه الحرب كأنها الحرب الأخيرة.

عند الحديث عن إعادة الإعمار، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو إيجاد التمويل ومواد البناء وتوفّر الجهات الهندسية التي تقدم المخططات بهدف بناء ما دمّرته الحرب من بنى تحتية ومساكن.

تاريخياً، استغلت القوى الاستعمارية هذا الفهم لتحقق أو تستكمل من خلال عملية إعادة الإعمار أهداف حروبها أو لتفرض هيمنتها على الشعوب المنكوبة بالكوارث الطبيعية. أشهر مثال في التاريخ كان مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو المشروع الذي وضعه رئيس هيئة الأركان، ولاحقاً وزير الخارجية الأميركي الجنرال جورج مارشال، الذي حوّل أوروبا الغربية إلى محمية عسكرية – اقتصادية تابعة للولايات المتحدة.

بعد الاستيلاء على معظم أوروبا، انشغلت الرأسمالية العالمية بمواجهة الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية والأنظمة الوطنية الناشئة في أكثر من دولة في العالم، فكان الستار الحديدي والحروب والحصار والانقلابات والاغتيالات، لتنجح الرأسمالية في مسعاها، وينهار الاتحاد السوفياتي، مخلفاً مجموعة جديدة من الدول أثارت شهية الوحش الرأسمالي الذي انطلق لفرض هيمنته على العالم. لم تكن الجيوش وحدها أداة الهيمنة الجديدة، بل انضمت إليها المنظمات غير الحكومية والمشاريع الاقتصادية التي وضعتها الدول المانحة. 

رغم الضغوط الاستعمارية، امتلكت بعض الشعوب ثقافتها الخاصة بإعادة الإعمار، وأثبتت من خلال تجاربها قدرتها على العمل خارج نفوذ الاستعمار الغربي ومشاريعه، وحافظت على ثوابتها الوطنية في وجه الأموال التي انهالت عليها من الدول المانحة والمنظمات غير الحكومية تحت شعارات إنسانية. 

لعل تجربة المقاومة في لبنان بعد حرب 2006 والتجارب المتكررة للمقاومة في غزة خير مثال على الفصل بين ثقافة إعادة الإعمار كمتطلب وطني والأهداف السياسية التي يسعى العدو لتحقيقها من خلال هذه العملية.

لم تستطع الأموال التي قدمتها الدول الغربية وبعض الدول العربية لإعادة الإعمار المساس بمفهوم المقاومة كوسيلة للتحرير والتحرر. لذلك، تراجعت الكثير من الدول المانحة عن الوفاء بوعودها، وساهمت في تشديد الحصار على المقاومة بوسم تنظيماتها بالإرهاب، واعتبار أي دعم يقدم لها دعماً للإرهاب يمكن أن يقود صاحبه إلى المحاكم والسجون. 

وعملت هذه الدول على تضخيم عمليات التدمير، سواء على الأرض أو من خلال التقارير الدولية "المحايدة"، لبث حالة من اليأس لدى الشعوب من إمكانية تصديها لمهام إعادة الإعمار بعيداً عمّا يسمى المجتمع الدولي ومنظماته ودوله المانحة.

إن الحديث عن عشرات ملايين الأطنان من الركام، والحاجة إلى زمن طويل يقدر بالسنوات لإزالتها، ومن ثمّ المباشرة بإعادة الإعمار، ليس سوى فزاعة تهدف إلى دفع جمهور المقاومة للموافقة على المشاريع الغربية – الصهيونية، بشقها السياسي المسمى "اليوم التالي"، وشقها الاقتصادي الذي يمثله الرصيف العائم الأميركي قبالة ساحل غزّة.

بحسب تقرير نشرته BBC، فإن عملية إزالة الأنقاض تنطوي على مخاطر حقيقية بسبب الصواريخ الإسرائيلية التي لم تنفجر، وخصوصاً أن بعض الصواريخ التي استهدفت أنفاق المقاومة استقرت على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، ما يجعل إزالتها عملاً خطراً يتطلب خبرات غير متوفرة في قطاع غزّة. 

يخلص التقرير إلى ضرورة الاستعانة بخبراء دوليين مختصين (المقصود عسكريون) للمساعدة في الكشف عن هذه الصواريخ وإزالتها. من المؤكد أن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة لن يوافقا على خبراء من مصر أو الأردن، ناهيك بالصين أو روسيا، فالمختصون الدوليون هم حصراً غربيون، وسيكون ضمن مهامهم كشف مواقع الأنفاق وتقنيات حفرها لاستخدام هذه المعلومات في الحروب القادمة.

أخطر ما يواجه ثقافة إعادة الإعمار هو محاولات البعض تصوير هذه الحرب كأنها الحرب الأخيرة مع الكيان الصهيوني، وأننا حققنا النصر النهائي، وعلينا السعي اليوم نحو البناء والازدهار.

فكرة الحرب الأخيرة حلم يراود الكيان وداعميه في الغرب وحلفاءه العرب. وعود بتحويل غزّة إلى سنغافورة الشرق وإعادة لبنان ليكون سويسرا الشرق هي أحلام تداعب خيال بعض المرهقين ممن تعبوا من المواجهة ويحلمون بالعودة إلى حياة الرخاء. مجموعات وأحزاب خانتها لياقتها الثورية، فلم تكتفِ بنقل البندقية من كتف إلى كتف، بل ألقت البندقية نهائياً، وهاجرت إلى عواصم النور لتجلدنا بواقعيتها وانبهارها بالنموذج الغربي.

في الجانب المقابل، تبدو الأمور صعبة على محور المقاومة، فهو القائم على التصدي للعدو، مسخّراً إمكانياته للاستعداد للمعركة وخوضها بكفاءة أذهلت العدو. عملية إعادة الإعمار تحتاج إلى مليارات الدولارات، فهل يقدر محور المقاومة على التصدي لها؟ يطرح البعض هذا السؤال بهدف بث اليأس في النفوس، بل ويطلقه أحياناً لإدانة المقاومة، بذريعة أنها لم تقدّر تكاليف إعادة الإعمار عند ذهابها للتصدي للعدو. هنا، يبرز السؤال عن دور القوى السياسية والنخب العربية المؤيدة لمحور المقاومة، والتي لم تسمح لها ظروف الجغرافيا والسياسة بالمشاركة في المعركة بشكل مباشر. 

لقد بات إنشاء الصندوق القومي الشعبي العربي لإعمار قطاع غزّة مطلباً ملحاً، لتقدم الجماهير العربية مساهمتها في إعادة الإعمار، والأهم مساهمتها في الحفاظ على ثقافة إعادة الإعمار من أنها فعل وطني هدفه تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والتأكيد على مواقف المقاومة وثوابتها. مع تصاعد الحديث عن وقف إطلاق نار قادم، لا بد من حث الجهود باتجاه دعم صمود القطاع وأهله ومقاومته، فهم الدرع الذي حمى الأمة وأعاد لها مكانتها بين الأمم كأمة حرة قادرة على دفع ثمن حريتها مهما غلا.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.