بين مونديالين
ما ساعد قطر على النجاح في تنظيم مونديالها، ذلك المونديال الذي يخوضه أبناء فلسطين على أرضهم كل يوم. نراه مونديالاً لأنه حدث عالمي لا يتكرر إلا في فلسطين.
لفظة مونديال مشتقة من الفرنسية الوسطى، وتعني حدثاً عالمياً، وهي من جذر الكلمة الفرنسية Lamonde نفسه وتعني العالم. صاحب فكرة كأس العالم هو الفرنسي جول ريميه، الذي اختار إطلاق اسم المونديال على كأس العالم لكرة القدم تأكيداً لصفته العالمية، واهتمام شعوب الأرض كلّها بهذا الحدث.
أقيمت البطولة الأولى في الأوروغواي سنة 1930، وشارك فيها 13 فريقاً من أوروبا والأميركيتين الجنوبية والشمالية، وكان الفرنسي لوسيان لوران أول من سجل هدفاً في تاريخ المونديال، والأوروغواي أول دولة تتوّج في كأس العالم بعد فوزها في المباراة النهائية على الأرجنتين 4 – 2.
جرى كثير من المياه تحت جسر المونديال وتغيّر كل شيء، فاللعبة الشعبية الأولى لم تعد في متناول الشعوب الفقيرة، واستولت الاحتكارات على تفاصيل اللعبة من نوعية القمصان والأحذية وأسعار اللاعبين، وحتى حقوق النقل التلفزيوني، إذ يبلغ معدل ثمن الاشتراك لمتابعة مباريات المونديال نصف حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لبلاده في أكثر من نصف عدد دول العالم.
كان مونديال قطر مميزاً منذ لحظة إسناد تنظيم البطولة إلى هذه الدولة الصغيرة. بعد الاتهامات بالفساد التي أطاحت رؤوساً كبيرة في الفيفا، ظهرت موجة التشكيك في قدرة الإمارة الصغيرة على تنظيم هذا الحدث وتأمين الجماهير الكافية، والتعامل مع ملايين الزوار الذين يحتاجون إلى بنية تحتية في مجال الفنادق، والنقل الداخلي، والمطاعم، والطيران، والصحة، لكن قطر أثبتت من خلال تنظيم بطولات قارية ومباريات دولية أنها تسير على الطريق الصحيح بعد أن استثمرت نحو 220 مليار دولار في تجديد بنيتها التحتية لتتناسب مع حجم الحدث العالمي.
ارتفع بعدها صوت الحديث عن حقوق الإنسان، وخاصة العمال، وقد بدأ في مرحلة مبكرة، ليصل إلى ذروته قبل أسابيع من بداية كأس العالم عندما أعلنت الدنمارك أنها لن تضع شعار بلدها على قميص اللاعبين احتجاجاً على وضع حقوق الإنسان، لتلحق بها عدة بلديات فرنسية أعلنت عدم السماح بقيام ساحات للمشجعين.
بالرغم من كل ما سبق، تمكنت قطر من النجاح منذ اللحظة الأولى بفضل ماكينتها الإعلامية الضخمة، وخروجها من أسر الجمهور الأوروبي المتطلّب والتوجّه نحو جماهير دول العالم الثالث. اعتمدت الحملة القطرية على مسارين: مالي، عندما وفّرت إمكانية حضور المباريات لمشجعين من الوطن العربي ودول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية بأسعار معقولة نسبياً. ومسار فكري من خلال طرح قضايا تهم العديد من الشعوب فاختارت الإسلام وقضية فلسطين.
من خلال ما يتعرض له المسلمون في العالم الغربي من وسم بالإرهاب والتخلف، ارتكزت الحملة القطرية على تقديم صورة عصرية للإسلام خاصة بقبول الآخر، من دون تقديم تنازلات تشعر هذا الآخر أن ما يحدث أمر مؤقت مرتبط بكأس العالم، لذلك منعت المشروبات الكحولية في محيط ملاعب المباريات، ومنعت من يرتدون ملابس تحمل شعارات المثلية من دخول الملاعب.
واستطاعت هذه الحملة تحويل الملابس العربية من رمز للإرهاب، إلى ملابس شعبية تنطوي على اختلاف يمنح الفرح لمن يرتديها، فشاهدنا مشجعين من مختلف الجنسيات يرتدون الزي الشعبي العربي ملوناً بألوان بلادهم وشعاراتها، ويضعون الكوفية والعقال.
في الجانب الفلسطيني، فتحت قطر الأبواب لنقل أخبار الجماهير العربية، وخاصة الخليجية، التي رفضت لقاء وسائل الإعلام الصهيونية، وإنْ كان الأوْلى عدم السماح لها بالدخول من الأساس، طبعاً هذا لو كان الموقف القطري حقيقياً ويعكس خياراً سياسياً للحكومة القطرية، لكنه كان موقفاً إعلامياً الهدف منه جذب المزيد من الجماهير العربية، وتخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى الإمارة لهدر مبلغ كان يكفي لخلق قاعدة اقتصادية عربية صلبة من المحيط إلى الخليج.
لقد كانت الجماهير العربية الرافضة للتطبيع والمناهضة له موجودة دائماً، لكنها لم تكن تحلم بفرصة للتعبير عن رأيها في وسائل الإعلام القطرية أو السعودية أو الإماراتية. علينا أن نلاحظ أن هذه الفرصة متاحة لجماهير المونديال فقط، أما الجماهير التي تعبّر عن رفضها زيارة الرئيس الصهيوني إلى مملكة البحرين فمحرومة منها.
أثبتت الأحداث على الأرض أن كل من يبحث عن شعبية جماهيرية فإن عليه الولوج من بوابة القضية الفلسطينية. كان الحضور الفلسطيني في هذا المونديال واضحاً ولافتاً، وكان منظر الجماهير العربية وهي تلوح بالأعلام الفلسطينية داخل الملاعب وخارجها يثلج صدر كل عربي حر، ويثبت أن ما قلناه منذ مؤامرة كامب ديفيد أن الجماهير العربية لا ترى الكيان الصهيوني إلا عدواً تجب هزيمته، وأن فلسطين أرض عربية لا بد من تحريرها، كان كلاماً ملتصقاً بوعي الجماهير ومطالبها الحقيقية.
ما ساعد قطر على النجاح، ذلك المونديال الذي يخوضه أبناء فلسطين على أرضهم كل يوم. نراه مونديالاً لأنه حدث عالمي لا يتكرر إلا في فلسطين. شعب لم يتوقف يوماً عن المقاومة وتقديم الشهداء. قدمت فلسطين خلال يومين من أيام مونديال قطر سبعة شهداء، بينهم الشقيقان جواد وظافر الريماوي.
بما أن المعجزة في المونديال الفلسطيني حدث يومي، لم تمر سوى ساعات حتى كان الشاب الفلسطيني عمر منّاع الفرارجة يستشهد مدافعاً عن شقيقه يزن الذي اعتقلته سلطات الاحتلال. لقد كان فتح قطر إعلامها وملاعبها للقضية الفلسطينية خطوة ذكية أنست الجماهير العربية الدور التخريبي الذي لعبته الإمارة في إبّان "الربيع العربي".
لقد قالت الجماهير العربية كلمتها، أن فلسطين هي قضيتها الأولى، و"إسرائيل" هي عدوتها الأبدية، وكل ما دون ذلك يمكن تجاوزه.
الدرس الأخير الذي تعلمناه في مونديال قطر، أن الحديث عن عدم الخلط بين الرياضة والسياسة ليس سوى أكذوبة ليبرالية رأسمالية، مسلطة على رقاب الأمم الفقيرة. لقد استطاع الغرب الرأسمالي حشد كل قواه ضد روسيا وبيلاروسيا بذريعة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومنع الاتحاد الدولي كلتا الدولتين من إكمال التصفيات واحتمال الوصول إلى كأس العالم.
علينا التخلص من ترهات الليبرالية وعدم القبول بالفصل بين قضايا الأمة، وأن نحمل قضيانا الوطنية كأمة عربية وفي صدارتها قضية فلسطين إلى كل المحافل الدولية بما في ذلك المحافل الرياضية.