بين رماد غزة وصوت القاهرة: العرب أمام امتحان التاريخ
ما تزال القاهرة، كما كانت دائمًا، آخر من يغادر الميدان وأول من يفتح نافذة للأمل. سيكتب التاريخ أن في زمن الرماد كان للعرب صوت، وأن هذا الصوت خرج من مصر.
-
العرب أمام امتحان التاريخ.
بعد عامين من الدم والدمار، تخرج غزة من تحت الركام لا لتدخل مرحلة سلام، بل لتواجه شكلًا آخر من الحرب: حرب الخرائط والمشاريع المتداخلة التي تتجاوز حدودها الجغرافية إلى عمق الإقليم.
وفي خضم هذا المشهد، جاء مؤتمر شرم الشيخ ليعيد القاهرة إلى قلب الفعل، لا بوصفها وسيطًا محايدًا، بل كصاحبة مبادرة واقعية في إطار فن الممكن، تسعى إلى وقف العدوان على أهلنا في قطاع غزة، إدراكًا منها أن استمرار النزيف لا يخدم سوى الكيان الصهيوني ومَن وراءه.
لكن القاهرة – كما تدرك المقاومة الفلسطينية – تراهن على التفاصيل لا على العناوين، وعلى تثبيت معادلة جديدة تضمن وقف العدوان من دون تفريط في جوهر القضية.
أما المشهد العربي العام، فتكفيه عبارة واحدة: أمة تتألم بصمت. فمعظم الدول العربية إما انشغلت بأزماتها الداخلية أو آثرت النأي بنفسها، فيما تبقى مصر وحدها تواجه حزام النار الذي يحيط بها من كل الجهات: من ليبيا غربًا، والسودان جنوبًا، وقطاع غزة شرقًا، ومع ذلك تمضي بثبات في محاولة الإمساك بخيوط التوازن في لحظة لا تملك فيها رفاهية الخطأ.
لم تعد القاهرة تتحرك ترفًا دبلوماسيًا، بل دفاعًا عن روح العروبة التي توشك أن تختنق بين الدخان والمساومات. ومن بين الركام يعلو صوت القاهرة، لا ليغطي على آلام غزة، بل ليمنع أن يتحول صمودها إلى صفحة من الماضي.
وصاية بثوب إنساني
تُقدَّم "خطة ترامب الجديدة" بوصفها مبادرة لإعادة الإعمار ووقف القتال، لكنها في جوهرها إعادة إنتاج مموّهة لصفقة القرن، مستندة إلى مزيج من الإغراءات الاقتصادية والمصطلحات الإنسانية لتكريس واقع سياسي جديد على الأرض.
واشنطن تدرك أن لحظة ما بعد الحرب أخطر من الحرب نفسها، لذلك تسعى إلى فرض "سلام إداري" يعيد تشكيل غزة ككيان منزوع السيادة، تديره سلطة محلية محدودة تحت إشراف دولي وإقليمي، بينما يُستبعد جوهر القضية الفلسطينية من المشهد.
اللغة التي تستخدمها الإدارة الأميركية في الوثيقة – "الإنعاش الإنساني"، "الإدارة المشتركة"، "الأمن المتكامل" – تُخفي تحتها مشروع وصاية دولية كاملة، هدفها سحب الملف الفلسطيني من أيدي أبنائه ووضعه في عهدة تحالف مصلحي جديد يشارك فيه بعض العواصم العربية بتفاوت درجات الحرج.
وما يثير الانتباه أن هذه الخطة تواكبت مع الجهود المصرية في شرم الشيخ، التي حاولت القاهرة من خلالها أن تفرّق بين الممكن والمفروض؛ فهي، وإن أدركت حجم الضغوط الدولية، إلا أنها ترفض أن يتحول وقف النار إلى تفويض للهيمنة أو إلى إجهاض للمقاومة.
إن واشنطن لا تطرح خطة سلام بقدر ما تسعى إلى هندسة واقع جديد تُدار فيه غزة كمنطقة نفوذ لا كأرض تحت الاحتلال.
آخر خطوط التماس العربية
في زمن التراجع العربي، تبدو القاهرة وعمّان آخر من تبقّى على خطوط التماس المباشرة مع النار الفلسطينية، لكن الفارق بينهما كبير في الرؤية والقدرة على الفعل.
فالأردن، الذي يعيش بين ضغوط داخلية وهواجس خارجية، أعلن بوضوح رفضه الانخراط في أي ترتيبات عسكرية داخل قطاع غزة، مدركًا أن المشاركة في قوة عربية تحت رعاية أميركية أو "إسرائيلية" ستكون مغامرة سياسية وانتحارًا وطنيًا.
أما مصر، فتتحرك بعقل الدولة العميقة التي تعي أن أمنها القومي يبدأ من حدود غزة، وأن أي تسوية تُفرض خارج الإرادة الفلسطينية ستنعكس عليها مباشرة.
في مؤتمر شرم الشيخ، أثبتت القاهرة مرة أخرى أنها تتحرك من منطق الدولة التي تمارس "دفن الممكن" من دون أن تُفرّط في الثوابت. لم ترفع شعارات مثالية، ولم تُساير مشاريع الوصاية، بل حاولت أن تفتح ثغرة في جدار النار بحثًا عن هدنة تحفظ ما تبقّى من الحياة، وفي الوقت نفسه تُبقي للسياسة العربية حدًّا أدنى من الوجود.
بينما اكتفى كثيرون بالصمت أو التفرّج، كانت مصر وحدها تضع قدمها في الميدان، وتُخاطر بوزنها ومصداقيتها لتمنع الانزلاق إلى فوضى شاملة.
هذا التوازن الدقيق الذي تمارسه القاهرة - بين المقاومة والمجتمع الدولي، بين الموقف الإنساني والسياسي - ليس سهلًا، لكنه ما تبقّى من الفعل العربي الحقيقي في زمنٍ تراجع فيه الصوت الجماعي وتحولت القضايا الكبرى إلى ملفات على موائد الكبار.
انكفاء الضرورة وتبدّل المشهد
لم يكن غياب لبنان عن مشهد الفعل العربي خيارًا، بل نتيجة قسرية لمسار طويل من الاستنزاف.
فبعد ما تعرّضت له المقاومة اللبنانية من حربٍ ضروسٍ ومحاولات خنق سياسي واقتصادي، وبعد سقوط النظام السوري الذي كان يشكّل الظهير الإقليمي لمحور المقاومة، وجدت السلطة التنفيذية في بيروت نفسها أمام واقع داخلي هشّ وضغوط دولية خانقة، تدفعها إلى سياسة "النأي بالنفس" كحدٍّ أدنى للبقاء في توازنات لا ترحم.
ومع ذلك، يبقى في وجدان اللبنانيين والعرب على السواء، أن المقاومة اللبنانية ليست طرفًا سياسيًا عابرًا، بل هي جزء من الذاكرة القومية التي أثبتت أن الهزيمة ليست قدرًا عربيًا.
لكن الواقع تغيّر، وباتت بيروت الرسمية تتصرّف وفق ضرورات داخلية أكثر منها قومية، فيما تظل المقاومة - رغم الجراح وفقدان السند الإقليمي - حاضرة في الوجدان، وإن غابت عن القرار.
لبنان اليوم لا يغيب عن المعادلة تمامًا، لكنه يُقاتل في صمته ضد العزلة، كما تُقاتل غزة في رمادها ضد النسيان.
نفوذ بعباءة المقاومة
في ظل الفراغ العربي المتنامي، تحاول تركيا أن تملأ المشهد بخطابٍ حماسيٍّ متوهجٍ تجاه فلسطين، يوحي بأنها الوريث الطبيعي للعجز العربي، لكنها في الواقع تتحرك وفق براغماتية دقيقة تستهدف مراكمة النفوذ لا تصحيح الموازين.
فخطابات الرئيس رجب طيب إردوغان المفعمة بالتحدي لا تنفصل عن حسابات المصالح التي تربط أنقرة بتل أبيب وواشنطن، ولا عن شبكة الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية التي تُدار في الخفاء.
منذ عامين وتركيا تتحرك على أكثر من جبهة:
في الخليج بعناوين الاستثمار والطاقة، وفي البحر الأحمر بخطاب الحماية، وفي شمال سوريا بغطاء مكافحة "الإرهاب"، وكل ذلك يجري تحت سقف واحد - توسيع رقعة النفوذ الإقليمي تحت راية "الدفاع عن المظلومين".
غير أن القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت معيار الصدقية الأخلاقية لأي فاعل إقليمي، تحوّلت في الخطاب التركي إلى أداة رمزية أكثر منها التزامًا عمليًا.
فأنقرة تُعلن دعمها لغزة، لكنها تحتفظ بعلاقات تجارية مزدهرة مع "إسرائيل"، وتستقبل استثماراتها من دون حرج، وتنسّق أمنيًا مع واشنطن في ملفات تمس جوهر الصراع.
تتحدث أنقرة بلغة المقاومة، لكنها تفكر بعقل السوق؛ ترفع الصوت عاليًا في المنابر، ثم تخفضه في غرف التفاوض.
ومع أن تركيا استطاعت عبر هذا الخطاب أن تملأ فراغًا معنويًا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، إلا أنها لم تقدّم يومًا مشروعًا سياسيًا متكاملًا لتحرير فلسطين أو لتفكيك بنية الاحتلال.
فما تطرحه لا يتجاوز دور الوسيط الطامح الذي يحاول أن يوازن بين صورته الأخلاقية ومصالحه الجيوسياسية.
تثبيت التوازن ومنع التفريط
بعد عامين من المواجهة المفتوحة في غزة والجنوب اللبناني، يمكن القول إن إيران لم تعد فاعلًا متنازعًا على ملفات الإقليم بقدر ما أصبحت عنصر توازنٍ ضروريًّا يمنع الانهيار الكامل في معادلة الصراع.
فمنذ اندلاع الحرب، حافظت طهران على خيط دقيق يربط بين دعم المقاومة ميدانيًا وتفادي الحرب الشاملة التي كانت واشنطن وتل أبيب تراهنان على استدراجها.
ولم يكن ذلك موقفًا انفعاليًا، بل حسابًا استراتيجيًا باردًا يدرك أن زمن الشعارات انتهى، وأن الحفاظ على محور المقاومة يقتضي توزيع الأدوار وتحديد سقف الردع.
إن الحضور الإيراني اليوم لا يقوم على مبدأ "المزايدة" أو "التحدي المفتوح"، بل على حماية جوهر الصراع من أن يتحول إلى تسوية مفروضة أو صفقة تجارية.
ولعلّ أبرز ما يميز هذا التحول هو أن طهران انتقلت من الدفاع عن نفوذها الإقليمي إلى الدفاع عن ميزان الوعي الإقليمي - ميزانٍ يحافظ على فكرة المقاومة بوصفها ضرورة وجودية في وجه مشاريع التصفية.
لم تعد طهران تراهن على الحرب، بل على الصبر الاستراتيجي الذي يُبقي جذوة المقاومة حيّة ويمنع تحويلها إلى ورقة في بازار التسويات.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الدور الإيراني - رغم كل التناقضات - يسهم في إبقاء الباب مفتوحًا أمام الحل العادل، لا عبر فرض القوة، بل عبر منع إجهاض الحق الفلسطيني تحت مسمى "الواقعية السياسية".
الفراغ العربي وحضور القاهرة المنفرد
يبدو المشهد العربي بعد عامين من الدم والنار أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
فالعواصم التي كانت تتصدر المشهد ذات يوم انكفأت إلى داخلها، تُصارع أزماتها الاقتصادية والسياسية، وتكتفي بخطاباتٍ متفرقة تُبرر الغياب وتغلفه بشعارات السيادة أو الحياد.
أما القاهرة، فقد وجدت نفسها - مرة أخرى - في قلب العاصفة، لا تملك ترف الانكفاء ولا خيار الحياد.
تحيط بها دوائر النار من كل اتجاه:
من الغرب ليبيا الممزقة، ومن الجنوب السودان الغارق في الفوضى، ومن الشرق قطاع غزة الذي يختبر ضمير العالم كل يوم، ومع ذلك تواصل مصر دورها بثباتٍ لا يخلو من المخاطرة، مستندة إلى إرثٍ تاريخي يجعلها العمود الفقري للوعي العربي حين ينهار البدن.
مصر لا تبحث عن دور، بل تؤديه؛ لأن غيابها يفتح الأبواب أمام الآخرين لكتابة التاريخ بمدادٍ أجنبي.
وهكذا، بينما اختار كثيرون الصمت أو الانكفاء، تظل القاهرة - رغم كل الضغوط والأعباء - الفاعل الوحيد الذي يجمع بين الشرعية السياسية والذاكرة القومية، تُخاطب العالم بلغة الدبلوماسية، لكنها تحمل في جوهر خطابها ضمير الأمة الذي لم يمت بعد.
ما بعد النار... امتحان الوعي والكرامة
ما بعد الحرب أخطر من الحرب ذاتها، لأن ما يُعاد بناؤه ليس الحجر فقط، بل الوعي والكرامة والإرادة.
فإذا كانت غزة قد قاومت القنابل بصمودها، فإن العرب اليوم مطالبون بمقاومة الإغراءات والمساومات التي تُصاغ في دهاليز السياسة باسم "السلام".
لقد انتهى زمن التبرير، وبات الصمت خيانة أخرى ترتكب في وضح النهار.
من شرم الشيخ إلى طهران، ومن أنقرة إلى العواصم التي غابت أو غُيبت، تتشكل خرائط جديدة للعالم العربي، لكن مصر - برغم تعبها الطويل - لا تزال الحاضر الذي لا يُمكن تجاوزه، تحمل على كتفيها ما تبقى من الحلم العربي، وتُحاول في كل مرة أن تُعيد للسياسة معناها، وللعروبة نبضها، وللقضية الفلسطينية مكانها في الوجدان قبل الخرائط.
بعد عامين من الدم والدمار، لم تُهزم غزة، لكنها كشفت من انهزم في داخله.
وما تزال القاهرة، كما كانت دائمًا، آخر من يغادر الميدان وأول من يفتح نافذة للأمل.
سيكتب التاريخ أن في زمن الرماد كان للعرب صوت، وأن هذا الصوت خرج من القاهرة.
وهكذا، فإن ما بعد النار ليس استراحة المحارب، بل امتحان الوعي العربي في قدرته على أن يتعلم من جراحه، وأن يُدرك أن تحرير الإرادة لا يقلّ صعوبة عن تحرير الأرض، وأن الأمة التي تنهض من رمادها، لا تحتاج إلى منقذٍ خارجي، بل إلى يقظةٍ داخلية تعيد إليها معنى وجودها.