إعادة إعمار غزة بين الهدنة والحصار!
حتى الآن لا يوجد اتفاق دولي أو فلسطيني واضح بشأن الجهة التي ستتولّى إدارة عملية الإعمار في غزة، ما يجعل السيناريوهات المحتملة متعدّدة ومتباينة من حيث الجدوى والتنفيذ.
-
سيناريوهات محتملة لإدارة الإعمار.
تستمر معاناة سكان قطاع غزة رغم الهدنة التي وُقّعت برعاية أميركية، إذ لم تُنهِ الاتفاقات القصف الإسرائيلي بشكل كامل، وإن خفّضت وتيرته مؤقتاً. فكلّ يوم يُسجَّل سقوط عشرات المدنيين بين قتيل وجريح، فيما تتسع رقعة المجاعة التي تضرب معظم التجمّعات السكانية.
ولا يبدو أنّ هذه الهدنة، الهشّة بطبيعتها، قد غيّرت من واقع الحصار أو من طبيعة الدمار الذي خلّفته الحرب الأخيرة، إذ ما زالت البنية التحتية مهدّمة، والمرافق الخدمية مشلولة، والوحدات السكنية مدمّرة في أحياء كاملة. وفي ظلّ هذا المشهد، يُطرح سؤال بديهي: هل يمكن فعلاً الحديث عن إعادة إعمار قريبة لقطاع يعيش في قلب العزلة والدمار؟
متطلّبات أولية في بيئة سياسية معقّدة
تُعدّ إعادة إعمار غزة واحدة من أكثر الملفات الفلسطينية تعقيداً منذ عام 2007، لكنها اليوم تبدو أكثر صعوبة بسبب حجم الدمار، وتآكل البنية الإدارية، وغياب التوافق السياسي الداخلي. فعملية بهذا الحجم لا يمكن أن تبدأ من دون تحديد واضح للجهة التي ستتولّى إدارة القطاع والإشراف على تمويل وتنفيذ المشاريع.
وتشير مصادر أممية إلى أنّ غياب هذا التوافق هو العقبة الأولى أمام أيّ خطة لإعادة الإعمار، إذ لا يمكن للمموّلين الدوليين الالتزام بتعهّدات مالية من دون وجود سلطة إدارية موحّدة وشرعية تحظى باعتراف إقليمي ودولي.
وفي الوقت ذاته، يظلّ الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من 17 عاماً عاملاً حاسماً في إعاقة أيّ تحرّك فعلي. فإدخال مواد البناء الثقيلة والمعدّات الأساسية يحتاج إلى تنسيق أمني معقّد، كما أنّ شركات التأمين والنقل الدولية ترفض التعامل مع بيئة أمنية غير مستقرة أو خاضعة لإملاءات سياسية.
ومن ثمّ، فإنّ أيّ إعادة إعمار فعلية مشروطة بضغط دولي حقيقي يجبر "إسرائيل" على رفع القيود المفروضة على المعابر والموانئ، ويسمح بدخول المواد من دون رقابة إسرائيلية مباشرة أو شروط مقيّدة كما حدث في تجارب سابقة.
فجوة التمويل والنيّات السياسية
تُقدّر الأمم المتحدة والبنك الدولي الكلفة الإجمالية لإعادة إعمار غزة، بما في ذلك البنية التحتية والإسكان والخدمات، بما يتراوح بين 50 و70 مليار دولار. وهو رقم يتجاوز بكثير ما تمّ إنفاقه في إعادة إعمار القطاع بعد حرب 2014، حين لم يتجاوز التمويل الدولي الفعلي ملياري دولار خلال ثلاث سنوات. هذه الفجوة المالية تطرح تساؤلاً حول من سيموّل ومن سيضمن الشفافية في التنفيذ.
من حيث المبدأ، هناك فئتان من المموّلين المحتملين.
الفئة الأولى هي الدول العربية والإسلامية، وعلى رأسها السعودية وقطر والإمارات، وهي دول تملك القدرة المالية لكنها تفتقر إلى رؤية موحّدة حول مستقبل غزة السياسي والإداري. وبحسب تقارير اقتصادية خليجية، فإنّ مجمل ما يمكن أن تقدّمه هذه الدول في السنة الأولى لن يتجاوز بضعة مئات من ملايين الدولارات، يُصرف جزء كبير منها على المساعدات الإنسانية الطارئة.
أما الفئة الثانية فتضمّ الدول الغربية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي عادة ما تربط المساعدات بمسارات سياسية محدّدة تتعلّق بإدارة القطاع وسلوك الفصائل الفلسطينية. وبالنظر إلى تجارب دول أخرى مثل سوريا، السودان، وأوكرانيا، فإنّ التمويل الغربي غالباً ما يكون أقلّ من مستوى التصريحات السياسية، ويخضع لاعتبارات تتعلّق بالرقابة والمصالح الاقتصادية.
لذلك، فإنّ أقصى ما يمكن للمجتمع الدولي توفيره خلال العام الأول لا يتجاوز خمسة مليارات دولار، وهو مبلغ لا يغطّي سوى نسبة محدودة من احتياجات الإعمار الأولية. وإذا استمر التمويل على هذا النحو، فإنّ العملية قد تستغرق عقداً كاملاً أو أكثر، لتتحوّل إعادة الإعمار من مشروع نهضوي إلى برنامج إغاثي طويل الأمد.
سيناريوهات محتملة لإدارة الإعمار
حتى الآن لا يوجد اتفاق دولي أو فلسطيني واضح بشأن الجهة التي ستتولّى إدارة عملية الإعمار، ما يجعل السيناريوهات المحتملة متعدّدة ومتباينة من حيث الجدوى والتنفيذ.
السيناريو الأول يتمثّل في أن تتولّى وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية إدارة عملية الإعمار من خلال إنشاء صندوق تمويلي خاصّ، يشرف عليه شركاء فلسطينيون ودوليون. هذا النموذج يمنح العملية قدراً من الشفافية والرقابة، ويُبقي الملف ضمن أجندة المؤسسات الأممية بعيداً عن الحسابات السياسية للدول. لكنّ العقبة الأساسية هنا هي الموقف الإسرائيلي الذي يرفض عملياً أيّ مسار لا يمرّ عبر آلياته الأمنية، مما يجعل نجاح هذا السيناريو مرتبطاً بقرار دولي ملزم لـ "إسرائيل" برفع الحصار والتعاون مع الجهود الأممية.
السيناريو الثاني يقوم على مبادرة إقليمية تشارك فيها الدول التي أدّت أدوار الوساطة خلال الحرب، مثل مصر وقطر وتركيا، بدعم أميركي وغربي مشروط. ميزة هذا السيناريو أنه يستند إلى قنوات اتصال مفتوحة مع الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية على حدّ سواء، ما قد يسهّل تذليل بعض العقبات السياسية والأمنية. غير أنّ نقاط ضعفه تكمن في هشاشة الالتزامات المالية المحتملة، واحتمال تداخل المصالح الإقليمية في عقود التنفيذ والتوريد، الأمر الذي قد يثير شكوكاً حول الشفافية والمساءلة.
أما السيناريو الثالث، فهو الأقلّ طموحاً والأكثر واقعية في المدى القريب، ويتمثّل في جهود إنسانية محدودة النطاق تشارك فيها منظّمات الإغاثة والمغتربون الفلسطينيون لإعادة تأهيل المساكن المؤقتة والخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والصحة. ميزة هذا السيناريو أنه يمكن تنفيذه بسرعة ولا يحتاج إلى توافق سياسي شامل أو تمويل ضخم، لكنه يبقى محدود الأثر من حيث إعادة بناء البنية التحتية أو وضع رؤية اقتصادية طويلة المدى للقطاع.
معاناة ما بعد الحرب
من الخطأ الاعتقاد أنّ اتفاق وقف إطلاق النار أنهى معاناة غزة. فالمأساة في مراحل ما بعد الحرب تكون غالباً أعمق وأشدّ، حين يجد السكان أنفسهم أمام انعدام الأمن الغذائي، وتدهور الخدمات، وفقدان فرص العمل. وتشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أنّ أكثر من 80% من سكان القطاع يعيشون حالياً على المساعدات الغذائية المباشرة، فيما تعاني نسبة مرتفعة من الأطفال من سوء تغذية حادّ.
إضافة إلى ذلك، فإنّ أزمة المياه والطاقة تُعدّ من أبرز مظاهر المعاناة المستمرة. فمحطة الكهرباء الوحيدة في القطاع تعمل بأقلّ من 20% من طاقتها، والمياه الصالحة للشرب لا تتجاوز 5% من إجمالي الإمدادات اليومية. هذه المؤشرات تكشف أنّ ما بعد الحرب ليس مرحلة تعافٍ بل استمرار لأشكال مختلفة من الإبادة البطيئة.
الإعمار كمعركة سياسية
ليست عملية إعادة الإعمار مجرّد مشروع هندسي أو مالي، بل هي معركة سياسية بامتياز. فكلّ طرف يسعى إلى توظيفها لتعزيز نفوذه أو فرض شروطه على مستقبل غزة. "إسرائيل"، من جانبها، تفضّل بقاء القطاع في حالة ضعف اقتصادي دائم يضمن لها السيطرة الأمنية ويمنع نشوء كيان فلسطيني متماسك. أما القوى الإقليمية، فتنظر إلى ملف الإعمار كمدخل لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في شرق المتوسط.
وفي المقابل، تبدو الفصائل والقيادة الفلسطينية أمام اختبار صعب: فإما أن تنجح في توحيد إدارة القطاع ضمن رؤية وطنية تتيح إشرافاً سيادياً على الإعمار، أو تترك الملف عرضة للتجاذب الإقليمي والدولي، بما يعيد إنتاج تبعية جديدة تحت مسمّى "الإشراف الدولي".
إنّ الحديث عن إعادة إعمار غزة في المدى المنظور يبدو أقرب إلى الوهم السياسي منه إلى الاحتمال الواقعي. فالعقبات التمويلية، والانقسام الداخلي، واستمرار الحصار الإسرائيلي، تجعل أيّ وعود بإعمار سريع أقرب إلى الدعاية منها إلى الخطط التنفيذية.
ومن دون رفع كامل للحصار، وضمان حرية حركة المواد والأفراد، وتوفير إدارة فلسطينية شرعيّة وموحّدة، ستبقى غزة رهينة لاقتصاد الإغاثة، وميداناً مفتوحاً لتجريب الوعود الدولية التي لا تكتمل.