النخب العربية وتواطؤ الصمت: حين يكون السكوت شريكًا في الجريمة
استنهاض الشارع العربي، وإعادة وصله بنبض القضايا الحقيقية، وبعث روح المقاومة والعدالة في ضميره، لم تعد خيارات سياسية بل هي ضرورات مصيرية.
-
ثمن التخاذل: دماء مستباحة..
على وقع صرخات الضحايا وأنين المكلومين في فلسطين، يأتي صوت أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، ليشق جدار الصمت المخزي، ويهزّ ضمير الأمة بقوة وحزم.
كلماته الصارخة التي وجهها للنخب العربية والإسلامية، الدينية والسياسية والثقافية، ليست مجرد عتاب، بل هي اتهام صريح وشديد اللهجة، يحمّل فيه هذه النخب مسؤولية الدماء التي تُسفك على أرض فلسطين. إنه صمت لا يمكن تبريره، وعار لا يمحوه الزمن، فسكوت القادر على الكلام في زمن المذابح لا يُعد مجرد حياد، بل تواطؤاً حقيقيًا مع القتلة.
بين العجز والتواطؤ
تدفعنا تلك التصريحات الصارخة إلى إعادة النظر في الدور التاريخي الذي يفترض أن تضطلع به النخب في العالم العربي والإسلامي، فإذا بها تنقسم إلى صنفين لا ثالث لهما: صنف مكبل بالهشاشة والعجز، يرهبه مجرد التفكير في المواجهة، وصنف آخر أكثر خطورة، يتقن التلون والتبرير، وقد ارتضى لنفسه لعب دور البوق للسلطة، يبيع قضاياه الكبرى على موائد السلطة مقابل فتات من المناصب والامتيازات. وفي الحالتين، تُترَك الشعوب بلا صوت حقيقي، ويتعطل الحراك الشعبي وتُجهض أي بوادر نهضة، بينما يستمر نزيف فلسطين بلا توقف منذ عامين، وسط صمت يُشبه الخيانة أكثر مما يشبه العجز.
الفكر السلفي الوهابي كأداة سياسية
هذا الواقع المؤلم لم يولد من فراغ، بل له جذوره العميقة التي ظهرت بوضوح في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973، حين شهدت دول الخليج طفرة مالية هائلة نتيجة ارتفاع أسعار النفط. استغلّ بعض الأنظمة الخليجية هذه الطفرة لترويج ودعم الفكر السلفي الوهابي بشكل ممنهج ومدروس، وسرعان ما تحوّل هذا التيار إلى أداة سياسية في أيدي الأنظمة الحاكمة، تُستخدم لتطويع الشعوب، وتخدير وعيها، وتجريم أي نزعة مقاومة أو تمرّد على الظلم والاستبداد.
لكن الخطر لم يتوقف عند هذا الحد. فقد أدركت القوى الاستعمارية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، القيمة الاستراتيجية لهذا التيار المتشدد، فعملت على توظيفه ضمن سياق الحرب الباردة، ولا سيما في أفغانستان، ثم أعادت استخدامه لاحقًا كوسيلة لتفتيت المجتمعات، وضرب الحركات التقدمية والقومية. وهنا نستحضر رؤية محمد عابد الجابري الذي يؤكد أن:
"انتشار الوهابية والسلفية ليس ظاهرة دينية فحسب، بل هو أيضًا ظاهرة سياسية، تقف خلفها الأنظمة العربية لتبرير شرعيتها وتثبيت سلطتها، وتستخدمها القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة كأداة فعّالة لخلق التمزقات داخل المجتمعات العربية."
أما إدوارد سعيد، المفكر الذي كرّس مشروعه لكشف بنية الهيمنة الثقافية والاستعمارية، فقد اختصر هذا التواطؤ بقوله:
"تبنّت الولايات المتحدة الوهابية كأداة أيديولوجية لتقويض المشروع القومي العربي وضرب حركات التحرر الوطني، ما أسهم في خلق تشوّه كبير في الهوية الثقافية والسياسية العربية."
لقد تحوّلت الوهابية إلى ذراع أيديولوجي للاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية، وصارت أداة لإفراغ الإسلام من مضمونه التحرري والإنساني، وتحويله إلى طقوس شكلية تحرّم الثورة وتحرّض على طاعة الظالم، ما مهّد الطريق لتكريس أنظمة التبعية ومشاريع التفتيت الطائفي والعرقي التي مزّقت أوصال الأمة، وخلّفت شعوبًا مسحوقة ونخبًا صامتة أو متواطئة.
التحالف الساداتي مع التيارات الإسلامية
في السياق ذاته، لا يمكن تجاهل التحالف البراغماتي الذي أقامه الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع جماعة الإخوان المسلمين، في مواجهة التيارات الناصرية واليسارية والماركسية التي كانت تشكل العمود الفقري للتيارات المناهضة للهيمنة والاستبداد. هذا التحالف لم يكن مجرد خطوة سياسية ظرفية، بل فتح الباب واسعًا أمام إعادة هندسة الإسلام في صيغة تُناسب السلطة، حيث جرى تفريغه من مضمونه الثوري التحرري، وتحويله إلى دين طقوسي شكلي، يُروّج الطاعة المطلقة، ويُجرّم العصيان، ويُشرعن الخضوع. لقد استُبدل الإسلام الذي يقاوم الظلم، بإسلام يُروّج لقبول الواقع، ويُكرّس الاستبداد كقَدَر لا مفر منه.
الجولاني وإعادة إنتاج اللعبة السياسية
إن صعود أبو محمد الجولاني إلى واجهة السلطة في شمال سوريا ليس حدثًا عارضًا أو خللًا طارئًا في المشهد السياسي، بل هو نتاج خالص لتحالفات إقليمية ودولية معلنة ومضمرة.
فالدعم الأميركي العلني، والتنفيذ التركي الميداني، والرضى الإسرائيلي الذي لم يخفِه نتنياهو، كلها عوامل تكشف أن ما يحدث هو إعادة إنتاج متقنة للعبة الإسلام السياسي كأداة في خدمة المشاريع المعادية لمصالح الأمة. الجولاني لا يمثل انتصارًا للثورة، بل انحرافًا بها، حيث أصبح جزءًا من بنية السيطرة، وأحد وجوه الإسلام الوظيفي الذي يُستخدم لتشويه مفاهيم التحرر، وتحويل المقاومة إلى سلعة تفاوضية رخيصة.
ثمن التخاذل: دماء مستباحة
إن لهذا الصمت المخزي ثمنًا فادحًا لم تدفعه النخب، بل دفعته دماء الأبرياء في فلسطين، الذين تساقطوا بالآلاف تحت القصف والحصار والخذلان. لم يكن التخاذل مجازيًا، بل كان تواطؤًا صريحًا، جعل من النخب شريكة موضوعية – وربما قانونية – في الجريمة المستمرة. هذه الرقاب التي سكتت عن المجازر، هي رقاب مثقلة بدماء لا تجف، وبعار لا يمحوه اعتذار، ولا يغسله الزمن.
لم يعد كسر حاجز الصمت ترفًا نضاليًا أو شعارًا عاطفيًا، بل هو شرطٌ وجودي لاستعادة ما تبقى من كرامة الأمة. إن استنهاض الشارع العربي، وإعادة وصله بنبض القضايا الحقيقية، وبعث روح المقاومة والعدالة في ضميره، لم تعد خيارات سياسية بل هي ضرورات مصيرية.
فإما أن تصحو هذه الأمة من سباتها الطويل وتعيد إنتاج نخبها على أسس الكرامة والوعي، أو تظل حبيسة نخب متكلسة، رهينة للصمت والتواطؤ، مكبّلة بعار التاريخ ووصمة الدم الفلسطيني.