العرب والرهان على خَرابِ جهنم...!

لم يُحْدِث موقف الأمة العربية من المقتلة التي تجري في غزة الفارق في لحظة تاريخية فارقة تعيشها، فجاءت مُواقفها مما يجري ترسيماً للعجز العربي، الذي وصل مستوياتٍ لا تقبلها الفطرة السوية.

0:00
  • العرب اليوم عاجزون، يتكئون على الدعاء حصراً ليُنصفهم مما حل بهم من ضعف ومهانة!
    العرب اليوم عاجزون، يتكئون على الدعاء حصراً ليُنصفهم مما حل بهم من ضعف ومهانة!

ورد في الأثر أن رجلاً سأل محمد بن مطروح الأعرج: أتجد في بعض الكتب أن جهنم تخرب آخر الزمان؟ فرد عليه: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها.

ولعل المتابع لما يدور في بعض الإعلام العربي وغالبية مواقع التواصل الاجتماعي العربية من جدل مرتبط بالحالة الأميركية الداخلية بعد انتخاب الرئيس ترامب وجملة القرارات المثيرة للجدل التي اتخذها، وما هو مرتبطٌ بالحالة الداخلية الإسرائيلية من مظاهرات واحتجاجات تتعلق بالحرب على غزة، وتغوّل نتنياهو وحكومته على المجتمع الإسرائيلي وإدارة الظهر لمطالبهم، لا يبتعد كثيراً في جوهره عن فكرة "التعويل على خراب جهنم" طَلَباً للخلاص.

فجلّ ما يتمناه العرب، العاجزون اليوم، هو أن "يضرب الله الظالمين بالظالمين" وأن "يُخرجنا من بين أيديهم سالمين"، أو "أن يجعل تدميرهم في تدبيرهم"! وهي كنايات فاضحة عن العجز الفاضح. 

صحيح أن الدعاء سلاح المؤمن في جميع أوقاته، وهو أصل العبادة، وأشارت السنة النبوية إلى مكانته وأهميته، وهو عبادة سهلة يستطيع كل إنسان القيام بها، لكن دعاء "قلة الحيلة والضعف" في الحالة العربية الراهنة ليس نابعاً من ضعف بنيوي مفروض، إنما هو ضعف طوعي اختارته وقبلته الأمة لنفسها بينما هي تمتلك الجيوش الجرارة، وتعج ترساناتها بالأسلحة والمعدات والبوارج والطائرات، وتملك إمكانات اقتصادية هائلة، ونفطاً وغازاً واستثمارات، وجماهير بالملايين لو هتفت بصوت واحد لأرعبت الغرب المستعمر والكيان الغاصب، ولو "بصقت على إسرائيل لأغرقتها"، ولكن، كل شيء مُعطل مع سبق الإصرار والعمد؛ شعوباً وأنظمة.

واقع عربي مخزٍ ومحزن وحالة من الوهن والضعف والقابلية النفسية للهزيمة، والاعتقاد بأن لا سبيل لمواجهة أميركا و "إسرائيل"، والاكتفاء بالسباب والدعاء عليهم.

ولعلّ المجازر الصهيونية المتصاعدة بحق أهل غزة، واعتداءات "إسرائيل" المتكررة على لبنان وسوريا هي في المحصّلة، نتيجة للصمت العربي بل اللامبالاة المُقعِدة؛ إذ علم الصهاينة والأميركيون أن العرب ليسوا إلا ظاهرة صوتية، وأن لا خيول للعرب ليركبوها ولا سيوف لهم ليشهروها، فسيوفهم حطب وخيولهم خشب. فليس هناك أمّة من الأمم تمرّغت كرامتها بالتراب والحضيض، كما يحدث مع الأمة العربية اليوم، فلا شيء نتقنه سوى التفرقة والحروب البينية، فأمددنا كل من عادانا بالقوّة؛ بسبب تفرّقنا وضعفنا وتمذهبنا، وركضنا خلف التفاهات الطائفية والمذهبية والمناطقية. 

وفي الوقت الذي تُعربد فيه "إسرائيل" وتنتهك وتقتل في بعض غرف الدار العربية، تختبئ غالبية الأشقاء العرب، كلٌ في غرفته يقف وراء بابه ينظر ويتفرج ويسمع ويرى "ويدعو". يقف الأشقاء بغالبيتهم لا يحركون ساكناً، هذا إن لم يتعاونوا ويعترفوا ويُطبّعوا ويصالحوا العدو نفسه الذي يقتل أشقاءهم، في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن.

وما هي إلا بضعة تنديدات وأدعية تخرج على استحياء، فيما البعض لا يجد نصرة لأخيه غير استجداء العون من أميركا، الراعي الرسمي للقتل، أو في حال "الغضب العربي" فالدعوة على أميركا ولعنها، وربما التمني أن "ينقلب سلوك ترامب الأهوج وبالاً عليها وعلى إسرائيل". 

العرب اليوم عاجزون، يتكئون على الدعاء حصراً ليُنصفهم مما حل بهم من ضعف ومهانة، والقيادات العربية تصوّر لشعوبها أن القدرة ليست سوى محض احتمالات واعتقادات وأوهام، أما العجز والصبر فإنهما اليقين بحد ذاته، ولذلك طغى العجز وأستبدَّ بنا التخاذل.

فجلّ ما نتقنه اليوم، إلا من رحم ربي، تغلب عليه الصياغاتُ الكلاميّة والخطابيّة، كالمطالبات والمناشدات والدعوات وإعلان الدعم، في غياب شبه كامل لأيّ خطوات أو مسارات عملية واضحة وقادرة على الفعل والتأثير يفترض أن تضطلع بها الأمة. وما الدعاء من طرف الشعوب والشجب من طرف الأنظمة إلا محاولة بائسة لرفع الحرج، بعد أن أحدثت حربُ الإبادة، التي تشنّها "دولة" الاحتلال على الشعب الفلسطيني، حالةً أخلاقيةً وسياسيةً كونية غير مسبوقة، في وقت عجزت الاحتجاجات، التي شهدتها أقطار عربية عن خلق حالة مُماثلة. 

فالضحايا الذين يرتقون اليوم في حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" بتواطؤ غربي مكشوف، وصمت عربي فاضح، باتوا عنواناً عريضاً لأزمة بنيوية تخترق مختلف مفاصل النظام العربي والشعوب العربية، فتكشف عجزها وعدم أهليتها لمواجهة التحدّيات الجسيمة التي تواجه بلدانها.

أمة كاملة بقدّها وقديدها وعدّتها وعتادها تعجز، ليس عن تحرير فلسطين "لا قدّر الله"، بل أن تفتح ثغرةً، ولو صغيرة، في جدار التعنّت الإسرائيلي، فلا تزال "إسرائيل" ترفض وقف إطلاق النار، وتستمر في عدوانها في تحدٍّ صارخ للمسلمين والعرب وكرامتهم وإنسانيتهم. ولم يكن حتى بوسع أؤلئك الذين طبّعوا مع "إسرائيل" وبنوا علاقات وطيدة معها أن يستغلوا علاقتهم "الطيبة" معها لمنعها من استمرار التغول، أو على أقله التخفيف من حرب التجويع التي تمارس ضد أهل غزة. فرفض أيّ ربط بين حرب غزّة واتفاقات التطبيع العربية الإسرائيلية، في هذا التوقيت، لا يعني غير تأكيد شرعية الاحتلال، وهو عائد سياسي، لا شكّ أنّ الاحتلال سوف يسعى لتوظيفه، بشكل أو بآخر، بعد وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب.

هكذا تتعامل "إسرائيل" مع من يمد إليها من العرب اليد، مُصالحاً أو مُرغماً، ولسان حالها يقول "أنتم لا شيء" وهي وحماتها في الغرب يسعون بكل السبل كي تصبح "إسرائيل" شرطياً في المنطقة، صاحب صوت وصولجان، وربما جزءاً طبيعياً من المنطقة، يحبها العرب وتدّعي حبهم، ثم تلفظهم عند أي لحظة فارقة في الزمان والمكان.

للأسف، لم يُحْدِث موقف الأمة العربية من المقتلة التي تجري الفارق في لحظة تاريخية فارقة تعيشها، ولم تضع مصلحتها ومقدراتها ومستقبلها بعين الاعتبار، فجاءت مُواقفها، الرسمية والشعبية، مما يجري ترسيماً للعجز العربي، الذي وصل مستوياتٍ لا تقبلها الفطرة السوية لأي مخلوق على وجه البسيطة.

الوضع القائم يعني التخلف، والتجزئة، والضعف، والتبعية المطلقة، و "إسرائيل" تدرك هذا العجز العربي، وهي التي كانت حين أقامها الغرب على أرض فلسطين عام 1948 نتيجة لذلك العجز، كما هي اليوم أحد أسبابه. وعلى العرب أن يعلموا بأن "إسرائيل" خطر داهم، ليس على فلسطين ولبنان وسوريا فحسب، بل على الوجود العربي كله، وأطماعها في قيام دولتها الكبرى ما زالت تراودها، وما تصريح بن غفير وسموتريتش وغيرهما من قادة اليمين المتطرف في "إسرائيل" حول حدود "دولتهم"، سوى مؤشر بسيط على ما يمكن أن ينتظر العرب ما لم يستيقظوا ويتحصنوا بوحدتهم وقوتهم ودفاعهم المشترك، والالتحام بشعوبهم درع حمايتهم، فإن الأطماع الصهيونية ستبتلعهم، وساعتها سيقولون "أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض".

وعلينا جميعاً أن نعي أن "إسرائيل دولة" لها حلمها الاستعماري للمنطقة، ولديها مشروعها الصهيوني لاستعادة "أرض إسرائيل"، وهذا الضعف العربي والهوان والعجز والاستسلام والاكتفاء بمقاعد الفُرجة لهذه الفظائع الرهيبة، والإبادة الجماعية التي تتمدد وتتسع من مدينة عربية إلى أخرى، من دون أن يحرك أحد لها ساكناً، لهو حقاً محنة العرب الكبرى ومصيبتهم العظمى.

إننا لن نُهزم أمام "إسرائيل" إلا إذا هيمنت علينا القابلية للهزيمة في داخلنا أولاً، واستسلمنا لشعار: "ليس في الإمكان أكثر مما كان". فهل نعي بأن الهزيمة تبدأ أولاً من دواخلنا وقابليتنا للهزيمة، فقد ورد أن رجلاً سأل أحدهم: لماذا كلما خُضت نزالاً انتصرت فيه؟، فأجاب: "تُحدثني نفسي أني غالبه، وتُحدّثه نفسه أني غالبه، فأدخل أنا ونفسُه عليه فنغلِبه