تغيّرات في النظرة الإسرائيلية لملف الأسرى ودور اليمين المتطرّف في صياغتها
أهالي الأسرى الإسرائيليين ونشطاء سياسيون يساريون يرون أنّ سلوك اليمين الإسرائيلي المتطرّف ينسف المبادئ كافة التي تأسست عليها "العقيدة الصهيونية" التي تقوم على حماية المقاتلين وضمان عودتهم أحياء.
-
أسرى "السابع من أكتوبر": ورقة مؤجّلة في حسابات نتنياهو.
منذ نشأة الكيان الإسرائيلي، حمل المجتمع داخله حساسية شديدة تجاه وقوع أيّ من أفراده في الأسر لدى فصائل المقاومة الفلسطينية. هذا الشعور تجلّى في سياسات حكومات الاحتلال المتعاقبة التي حرصت، على مدى عقود، على مجاراة نبض الشارع الإسرائيلي وتجنّب أيّ خطوات قد تمسّ ما يُعتبر "قيمة استثنائية" لكلّ مواطن إسرائيلي.
ودفعت هذه السياسة الحكومة في أكثر من مرة إلى الرضوخ لشروط المقاومة، وتقديم تنازلات في سبيل استعادة الأسرى. لكن اليوم، يبدو أنّ هذا النهج آخذ في التغيّر، بوتيرة غير مسبوقة.
في البداية كان الإسرائيليون يشعرون بهشاشة كيانهم "الوليد"، وأنه عُرضة للانهيار بسهولة إذا قرّر سكانه القليلون هجرته والعودة إلى بلادهم التي ولدوا وعاشوا فيها، وكان هناك حرص بالغ على استمرار تدفّق الهجرات اليهودية من دول العالم كافة إلى الأراضي الفلسطينية، كما أنّ القيادات الإسرائيلية سعت إلى الحفاظ على صورة "الدولة الجديدة" كواحة الأمان يضمن فيها اليهود حياة مستقرة وخالية من المتاعب بعد أن عانوا من "الشتات والاضطهاد" لقرون.
بمرور الوقت، نشأت أجيال إسرائيلية جديدة لم تعرف "وطناً" غير "إسرائيل"، وتراجعت مشاعر الغربة والانتماء المزدوج. على الصعيد الدولي، ارتفع مستوى القبول بوجود الاحتلال، حتى في أوساط عربية رسمية بدأت تطبّع العلاقات وتتعامل مع الكيان كأمر واقع.
هذا، إلى جانب سلسلة من الانتصارات العسكرية التي حقّقتها "إسرائيل"، ساهم ذلك في تغيّر وعي المجتمع الإسرائيلي بذاته، فبات أكثر ثقة في ديمومة كيانه، وأقلّ توجّساً من احتمالات الزوال. ورغم أنّ قضية الأسرى لا تزال حاضرة في وجدان الشارع، إلا أنّ الحماس الشعبي لاستعادتهم بأيّ ثمن لم يعد كما كان.
منذ عام 1968 وحتى عام 2011، تاريخ انطلاق ما عرف بـ "الربيع العربي"، نفّذت فصائل المقاومة الفلسطينية عشر صفقات تبادل أسرى مع الاحتلال. من أبرزها "عملية الجليل" المعروفة باتفاقية جبريل في أيار/مايو 1985، و"صفقة وفاء الأحرار" في تشرين الأول/أكتوبر 2011، إذ تمكّن الفلسطينيون من فرض شروطهم وإطلاق آلاف الأسرى مقابل ثلاثة إسرائيليين في الأولى، وجندي واحد في الثانية.
كذلك، نجحت المقاومة اللبنانية في إتمام عدة صفقات بارزة، منها صفقة عام 2004 التي أُفرج فيها عن مئات الأسرى مقابل الضابط الإسرائيلي إلحنان تانينباوم، وصفقة عام 2008 التي حصل فيها حزب الله على الإفراج عن سمير القنطار وأربعة مقاتلين آخرين، إضافة إلى رفات مقاتلين فلسطينيين وعرب، مقابل جثتي جنديين إسرائيليين.
أسرى "السابع من أكتوبر": ورقة مؤجّلة في حسابات نتنياهو
منذ تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، شهدت الساحة الإسرائيلية تحوّلاً كبيراً في أولوياتها الأمنية والسياسية. العملية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية أثارت صدمة واسعة داخل المؤسسة الإسرائيلية، إذ توغّل مقاتلو الفصائل الفلسطينية لمسافة تجاوزت 25 كيلومتراً داخل العمق الإسرائيلي، واجتاحوا تجمّعات سكنية وقواعد عسكرية، وأسروا نحو 251 شخصاً، نصفهم تقريباً من الأجانب أو من مزدوجي الجنسية.
مع بداية الحرب، طرحت حركة حماس مبادرة للإفراج عن جميع الأسرى مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. لكنّ حكومة بنيامين نتنياهو اختارت التصعيد العسكري، مستخدمة القوة وسيلة للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات، ووسيلة لمعاقبة سكان غزة بشكل جماعي على دعمهم للفصائل المسلحة.
لاحقاً، وفي ظلّ ضغوط دولية وداخلية، أفرجت المقاومة الفلسطينية عن 105 أسرى ضمن صفقة تبادل في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، ثم أطلقت 30 آخرين في صفقة ثانية خلال كانون الثاني/يناير عام 2025.
كما أفرجت حركة حماس عن أربعة من جانب واحد، بينما تمكّنت قوات الاحتلال من العثور على ثمانية آخرين داخل قطاع غزة. بذلك، استعادت "إسرائيل" 147 أسيراً على قيد الحياة، إضافة إلى 44 جثماناً. تلك الأرقام تشير إلى أنّ "إسرائيل" قد استردّت معظم أسرى عملية "السابع من أكتوبر"، وأنّ العدد المتبقّي يبلغ 59 أسيراً، منهم 24 فقط أحياء، ما يخفّف بالتدريج من الضغط على الحكومة.
في الداخل الإسرائيلي، تستمر عائلات الأسرى والمفقودين في تنظيم الاحتجاجات للضغط على الحكومة من أجل عقد صفقة تضمن إنهاء الحرب وعودة جميع الأسرى. ومع ذلك، يظلّ خطاب الحكومة متمسّكاً بالأولوية العسكرية، موجّهاً تركيزه نحو إلحاق ضرر بالغ بالبنية التحتية في غزة، وتصفية الفصائل المسلحة، وبثّ رعب واسع في الأوساط العربية لمنع أيّ دعم مستقبلي للمقاومة.
أحزاب أقصى اليمين وتأثيرها على ملف الأسرى
منذ أيام، كشف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بصراحة عن رؤية أحزاب أقصى اليمين لملف الأسرى، إذ قال "إعادة الأسرى من غزة ليست الهدف الأكثر أهمية، ومن يريد إعادتهم عبر الخضوع لحركة حماس يطلب فعلياً سحق قوة الردع الإسرائيلية". من المعلوم أنّ سموتريتش من أبرز الداعمين لاستمرار العدوان على قطاع غزة، ويقود حزب "الصهيونية الدينية"، الذي يُعدّ اليوم أبرز أحزاب اليمين المتطرّف داخل "إسرائيل"، ويحرّض على توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، شأنه شأن حزب "العظمة اليهودية"، الذي يقوده إيتمار بن غفير.
لم تأتِ تصريحات سموتريتش، خارج سياق مواقف اليمين الإسرائيلي المتطرفة، بل جاءت استمراراً لتوجّه أيديولوجي قائم على تصعيد العنف وتغليب الأهداف العسكرية على الاعتبارات الإنسانية، ففي شباط/فبراير الماضي، أثارت وزيرة الاستيطان الإسرائيلية، أوريت ستروك، جدلاً واسعاً عندما صرّحت بأنّ "الحكومة التي تلقي كلّ شيء في سلة المهملات من أجل إعادة 22 أو 33 رهينة لا تستحقّ البقاء، ويمكن التخلّي عن بعض الأسرى من أجل تحقيق النصر". هذا التصريح يعكس بوضوح مدى استعداد المسؤولين الإسرائيليين لتقديم التضحيات البشرية ضمن حسابات سياسية وأمنية بحتة.
في السياق ذاته، ذهب هليل فريش، أحد المرجعيات الأيديولوجية للائتلاف الحكومي والأستاذ في جامعة بار إيلان، إلى استدعاء تجربة تاريخية مختلفة، إذ دعا إلى الاقتداء بالإدارة الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي واصلت حربها ضدّ اليابان رغم احتجاز القوات اليابانية لـ41 ألف أميركي في ظروف قاسية. وأشار إلى أنّ واشنطن لم تُجرِ سوى عمليتين لتبادل الأسرى، أسفرتا عن إطلاق سراح 8% فقط من المحتجزين، معتبراً أنّ هذا النهج يمثّل سياسة ناجحة ينبغي لـ "إسرائيل" اتباعها.
كما رأى فريش أنّ عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها فصائل المقاومة الفلسطينية أضرّت بمصالح "إسرائيل" أكثر من الضرر الناجم عن الهجوم الذي شنّته دول المحور على ميناء بيرل هاربر الأميركي، في تشبيه يعكس مدى القلق الإسرائيلي من تداعيات هذه العملية على المستويات الأمنية والاستراتيجية.
ما سبق يعني أنّ تصريحات قادة اليمين الإسرائيلي ومفكّريه لا تعبّر فقط عن مواقف فردية، بل تعكس توجّهاً سياسياً وأخلاقياً يتعالى على الاعتبارات الإنسانية، ويستند إلى مقارنات تاريخية مشبوهة لتبرير خيارات عسكرية تتجاهل حياة المدنيين والرهائن على حد سواء، وبشكل عام نجح اليمين الإسرائيلي في حشد جزء معتبر من الرأي العام بهذا الاتجاه، وأعيد الجدل بخصوص بروتوكول هانيبال، والذي كان ينصّ على منع أسر الجنود الإسرائيليين، بأيّ وسيلة حتى لو تطلّب الأمر إيذاء الجنود أنفسهم.
ورغم أنّ أغلب استطلاعات الرأي الإسرائيلية لا تزال مؤيّدة لعقد صفقة تضمن تحرّر الأسرى ولو كان المقابل وقف الحرب، إلا أنّ أغلب المؤيّدين يتمنّون لو تمّت عملية التحرير من دون الاضطرار إلى الرضوخ لشروط فصائل المقاومة الفلسطينية، أو القبول بوجودها في قطاع غزة مستقبلاً.
أهالي الأسرى الإسرائيليين ونشطاء سياسيون يساريون يرون أنّ سلوك اليمين الإسرائيلي المتطرّف ينسف المبادئ كافة التي تأسست عليها "العقيدة الصهيونية" التي تقوم على حماية المقاتلين وضمان عودتهم أحياء مهما كان الثمن فادحاً، كما أنّ تصريحات الوزراء اليمينيين المتتالية تكشف عن تعطّش مريب للدماء ورغبة مستمرة في الضغط العسكري من دون أيّ اعتبار لإنسانية الفرد، وأنها تتجاهل بشكل تامّ معاناة عائلات الأسرى.
في المقابل يُصرّ قادة اليمين الإسرائيلي على مواقفهم، معتبرين أنّ تحرير الأسرى الإسرائيليين لا يمكن تحقيقه عملياً سوى بالتصعيد العسكري، وأنّ "إسرائيل" أمام فرصة تاريخية للقضاء على كلّ التهديدات التي تمثّلها المقاومة الفلسطينية، وهذا هو الضمان الحقيقي كي لا يقع إسرائيليون جدد أسرى في المستقبل. وقد نجح اليمين الإسرائيلي حتى اليوم في إحباط أيّ حراك جماهيري معارض، من خلال تأكيد أنه لم تعد ثمّة ضمانات أو خطوط حمر في السياسة الإسرائيلية.