الخطة العربية البديلة وفخ إعادة إعمار غزة
ثمة وعي مطلوب في لحظة تاريخية حاسمة من عمر القضية الفلسطينية، ويجب النظر إلى حقيقة، مفادها أن خطر المشروع الإسرائيلي لا يستهدف فلسطين وحدها، بل هو خطر قائم على الأمن القومي العربي ككل.
-
هل ستنجح الخطة العربية هذه المرة؟
يتحضّر بعض الأطراف العربية لتقديم خطة لإعادة إعمار قطاع غزة، تتماهى مع أهداف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورؤيته الرامية إلى إعادة إعمار غزة، على نحو يضمن ترتيبات جديدة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية، شريطة أن تشرف عليها أطراف فلسطينية من دون حركة حماس، بدأت ملامحها تتبلور شيئاً فشيئاً، من خلال تحركات عربية إقليمية تهدف إلى إعادة رسم المشهد الفلسطيني من جديد بغطاء إعادة الإعمار ومطالبة حركة حماس بالتنحي تحت ذريعة تحقيق مصلحة عليا للشعب الفلسطيني. وهذا ما عبر عنه، للمرة الأولى، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، بصورة صريحة.
هذه المبادرات، لو تمعنت في جوهرها وما تتضمنه من تسريبات هنا وهناك، فستجد أنها محمّلة بكثير من المخاطر التي قد تجهز على القضية الفلسطينية برمتها، لتطرح سؤالاً مهماً في هذا السياق بشأن الفحوى والأهداف للخطة العربية البديلة من صفقة ترامب، التي كررها مراراً وتكراراً عبر وسائل الإعلام الأميركية والدولية؟
واضح، بصورة لافتة، أن التحركات التي تجري في المنطقة تشير إلى أن كل شيء بدأ يظهر للعيان يتماهى مع مخطط لإرضاء الإدارة الأميركية الجديدة لتحقيق رؤيتها الرامية إلى تحقيق الأطماع الإسرائيلية في الدرجة الأولى، كثمن لإنهاء الحرب على غزة، وهذا ما عبر عنه بالأمس القريب وزير الخارجية الأميركي، والذي قال بوضوح: "إذا لم يعجب مخطط الرئيس ترامب شركاءنا في المنطقة، فعليهم تقديم خطة أفضل تسمح بإعادة إعمار غزة".
نحن أمام حقيقة خطيرة في هذا الصدد، بشأن دور عربي يشوبه كثير من علامات الاستفهام، فالخطة التي سيتقدم بها العرب بدأت تتضح معالمها وأهدافها أكثر فأكثر، مع كل تصريح رسمي يصدر؛ معالم تشير إلى أن ما عجزت "إسرائيل" عن تحقيقه، خلال خمسة عشر شهراً من القتل والقصف والتدمير، تريد أطراف عربية انتزاعه بقوة المال وتحت غطاء الابتزاز أو المساومة، متناسية أن حماس، بعد طوفان الأقصى، أضحت تشكل رقماً صعباً ومؤثراً في المعادلة السياسية والعسكرية يصعب تجاوزه.
ما يجري أكبر من خطة لإعادة إعمار قطاع غزة، بل يهدف، في الدرجة الأولى، إلى حرف الأنظار عن جرائم القتل والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والتي ارتكبتها "إسرائيل" طوال أيام الحرب، ثم يمثل خطة تهدف إلى إعادة هندسة غزة والمنطقة من جديد، على نحو يضمن تحييد المقاومة في قطاع غزة، وتقويض المشروع الوطني الفلسطيني وتحويله إلى قضية أمنية اقتصادية بامتياز، وهي خطة يعاد إنتاجها من جديد، كانت تقوم في ولاية الرئيس ترامب الأولى على أساس الأمن في مقابل الاقتصاد، بهدف تمرير صفقة القرن آنذاك. ويعاد صياغتها الآن بطريقة جديدة تستهدف تصفية القضية الفلسطينية لتحولها إلى مشروع تنموي بإشراف ومرجعية عربيين، وهذا معناه تقزيم مطالب الدول العربية التي كانت تنادي بدولة فلسطينية إلى إعادة خطة لإعمار غزة وخلق غزة جديدة منزوعة السلاح خالية من المقاومة، على نحو يضمن إخراج حماس من المشهد والمعادلة السياسيين الفلسطينيين.
ثمة تداعيات خطيرة متوقعة إزاء هذه الحالة، التي يتماهى معها بعض الأطراف العربية والإقليمية، ستلقي ظلالها على مستقبل القضية الفلسطينية إزاء الانخراط العملي في إعداد مخطط بديل من مخطط ترامب لإعادة الإعمار.
الأول: ستكون المقاومة ومن يمثلها في دائرة الاستهداف، لتحقيق الرؤية الإسرائيلية، على نحو يضمن تغييب أي تأثير لها في المشهد السياسي الفلسطيني.
الثاني: القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية ومشروعها، عبر تفكيك أي جسم سياسي فلسطيني ينادي ويطالب بدولة فلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني، وإيجاد أجسام جديدة تلبي الرغبة الأميركية الإسرائيلية بأيادٍ عربية.
الثالث: تحويل قطاع غزة من جزء من الأرض الفلسطينية إلى مكان تحت المرجعية والوصاية العربيتين، على نحو يؤسس سيطرة عربية كاملة، وهذا يشكل إعفاء لـ"إسرائيل" من مواجهة المقاومة.
الرابع: خلق واقع جديد يشكل أرضية ونواة لإنهاء روح المقاومة في العقل الفلسطيني، وتحويل قطاع غزة إلى مكان صغير محاصَر عربياً.
هذا كله يطرح سؤالاً مهماً: هل ستنجح الخطة العربية هذه المرة؟ أجزم وأقول، في قراءة للواقع الغزي الذي أعيشه وعشته طوال خمسة عشر شهراً من حرب الإبادة الجماعية، وما زلت، إن الشعب الفلسطيني لن يهاجر إلا إلى القدس وأراضيه المحتلة عام 1948، كحيفا ويافا واللد والرملة وسائر فلسطين، طال الزمان أو قصر، ويثبت أيضاً أن المقاومة، التي عجزت "إسرائيل" عن استئصالها، سيعجز كل من يضع نفسه وكيلاً لأميركا في المنطقة عن تحييدها أو تجاوزها، فحماس ومعها كل فصائل مقاومة الشعب الفلسطيني ليست مجرد حركات، بل تمثل عقيدة راسخة لشعب بأكمله. لذلك، فإن أي محاولة لإقصائها ستواجَه بطوفان شعبي يفوق كل الخطط والمؤامرات، والتاريخ يثبت في كل محطة من محطات الصراع مع "إسرائيل" أن المقاومة قوة قائمة على الأرض لن يستطيع أي طرف أو جهة دحرها وإخراجها من المعادلة، شاء من شاء وأبى من أبى.
ثم إن ما يجب على كل الأطراف العربية المعنية إدراكه أن التماهي مع مخطط الإدارة الأميركية الجديدة، بشكل أو بآخر، لن ينعكس بالمنفعة عليهم، فثمة وعي مطلوب في لحظة تاريخية حاسمة من عمر القضية الفلسطينية، ويجب النظر إلى حقيقة، مفادها أن خطر المشروع الإسرائيلي لا يستهدف قطاع غزة أو الضفة الغربية، بل هو خطر قائم على الأمن القومي العربي ككل، ولكل الأطراف ذات العلاقة بصورة خاصة، كونه سيكون مقدمة لبرنامج التوسعة والهيمنة الإسرائيليتين في المنطقة، فلا قيمة لأي حديث أو تسويات تتجاوز المقاومة في قضية لا تحتمل مزيداً من العبث أو التلاعب العربي، كيف لا بعد أن شكل صمود قطاع غزة وأهله طوال الحرب صفعة كبيرة لـ"إسرائيل"، لكن المهم أيضاً وما على العرب إدراكه ألا ينسوا أنهم الظهير الذي يجب ألا يتخلى عن فلسطين وقضيتها تحت أي ظرف كان، وإلا فالتاريخ لن يرحم.