أي تحديّات تواجه اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟
بعد التوصّل إلى الاتفاق الحالي حسب مقترح ترامب، والذي يُجمع كل المراقبين على احتوائه على صواعق تفجير عديدة، يخشى الكثيرون وعلى رأسهم سكّان القطاع الصغير والمدمّر من انهيار هذا الاتفاق.
-
بعد دخول الاتفاق أسبوعه الثالث ما زال غياب الالتزام الإسرائيلي ببنوده واضحاً وملحوظاً.
لا يخفى على احد ولا سيّما من المختصين والمراقبين أن التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة قد جاء بشق الأنفس، إذ إن الجهود التي كانت تُبذل خلال الأشهر التي تلت انهيار اتفاق التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي كانت تُواجه بمروحة واسعة من المعوقات والصعوبات، وقف وراء معظمها إن لم يكن جميعها العدو الصهيوني برئاسة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، والذي وجد في استمرار تلك الحرب مخرجاً آمناً يجنّبه الكثير من المشاكل والأزمات، والتي يقف على رأسها قضايا الفساد الثلاث المرفوعة ضده في المحاكم الإسرائيلية، وتشكّل بالنسبة له كابوساً مرعباً يحاول الفكاك منه بكل الطرق والوسائل.
بعد التوصّل إلى الاتفاق الحالي حسب مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي يُجمع كل المراقبين على احتوائه على صواعق تفجير عديدة، يخشى الكثيرون وعلى رأسهم سكّان القطاع الصغير والمدمّر من انهيار هذا الاتفاق، خصوصاً في ظل عدم التزام العدو به حتى الآن، وقيامه باختراقه مئات المرات ولا سيّما فيما يخص فتح معبر رفح، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية، إضافة إلى منع وصول المعدّات اللازمة للبدء بعملية رفع آلاف الأطنان من الأنقاض، والتي تتسبّب في مشاكل لا تُعدّ ولا تُحصى للمواطنين في غزة، وتعيق محاولاتهم لاستعادة جزء من حياتهم التي حوّلها الاحتلال إلى جحيم، بعد أن دمّر مساكنهم، وحوّل مدنهم وبلداتهم إلى كومة من الركام .
وفي حقيقة الأمر، يمكننا أن نلحظ وجود الكثير من التحديّات التي تقف في وجه استمرار هذا الاتفاق الشائك والمعقّد، والذي يرى الكثيرون أن قبول المقاومة الفلسطينية به جاء على قاعدة مُكره أخوك لا بطل، خصوصاً في ظل اشتداد حرب الإبادة والتدمير التي ازدادت وتيرتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وكانت تهدّد بتدمير كامل مدينة غزة، وتهجير مئات الآلاف من سكّانها نحو المجهول.
صحيح أن معظم التوقّعات تشير إلى استبعاد فرضية العودة إلى مربع الحرب الشاملة نتيجة الكثير من المتغيّرات، إلا أن هذا الأمر لا ينفي إمكانية أن تتّجه الحرب نحو سيناريوهات جديدة، منها على سبيل المثال الذهاب نحو النموذج اللبناني، والذي يعني أن تتحوّل الحرب الواسعة التي كانت تجري براً وجواً وبحراً إلى هجمات جويّة موجّهة، تُستهدف فيها مناطق بعينها، إلى جانب العودة لسياسة الاغتيالات ضد كوادر المقاومة، وهذا الخيار وارد وممكن كما حدث في الأسبوع الماضي بعد الادّعاء الإسرائيلي بوقوع هجوم عسكري في مدينة رفح المخلاة والمدمّرة.
سيناريو آخر مُتوقّع، وهو أن تتحوّل المرحلة الأولى من الاتفاق إلى مرحلة مستدامة، تبقى فيها الأمور على حالها، ولا تنتقل إلى المرحلتين الثانية والثالثة، وهذا الأمر تحديداً سيكون كارثياً على سكّان القطاع، والذين ينتظرون بفارغ الصبر البدء بعملية الإعمار، إلى جانب فتح معبر رفح البري، ودخول المساعدات والبضائع التي يحتاجها الناس في غزة.
على كل حال، وبعيداً من السيناريوهات المُتوقّعة، والتي يبدو بعضها متشائماً بعض الشيء، دعونا نستعرض جزءاً من التحدّيات التي يواجهها اتفاق غزة، والتي قد تهدّد بانهياره بشكل تام، أو على أقل تقدير تفريغه من مضمونه، وجعله يخدم الجانب الصهيوني فقط، والذي يبدو أن شهيته ما زالت مفتوحة للنيل من دماء الفلسطينيين، خصوصاً في ظل حكم الائتلاف اليميني المتطرّف.
أولاً /غياب الالتزام الإسرائيلي:
بعد دخول الاتفاق أسبوعه الثالث ما زال غياب الالتزام الإسرائيلي ببنوده واضحاً وملحوظاً، حيث يبدو هذا الغياب مقصوداً وممنهجاً كما جرت العادة في اتفاقات سابقة، حرص خلالها العدو على كسر العديد من الخطوط الحمر التي تشكّل عصب تلك الاتفاقات، وهو بذلك يسعى إلى إظهار نفسه بأنه صاحب اليد العليا، التي تتحكّم وتسيطر على كل التفاصيل، وتفرض ما تريده رغماً عن أنف الطرف الآخر.
بحسب المعطيات المتوفرة حتى الآن، والتي نلمسها عن قرب، لم يلتزم العدو بوقف الاعتداءات على المدنيين الفلسطينيين، ولا سيّما في المناطق القريبة مما يسمّيه الخط الأصفر، والذي يصادر من خلاله أكثر من 52% من أراضي القطاع، والتي تُعتبر في معظمها أراضي زراعية توفّر الجزء الأكبر من سلّة قطاع غزة الزراعية.
إلى جانب ذلك يمنع العدو دخول المساعدات الإنسانية بالكم والكيف الذي ينص عليه الاتفاق، ويواصل إغلاق معبر رفح البري مانعاً آلاف الجرحى والمرضى من السفر للحصول على العلاج اللازم في مشافي الدول المجاورة، يُضاف إلى كل ذلك استمرار طلعات الطائرات الحربية والمسيّرة المكثّفة، والتي تثير الكثير من الخوف والقلق لدى سكّان القطاع، والذين يرون فيها نذير شؤمٍ لاستئناف العدوان في مرحلة لاحقة.
ثانياً/ضبابية الموقف الأميركي:
على الرغم من الإعلان الأميركي المتكرّر بضرورة احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ووجوب التزام جميع الأطراف به، والاستعداد للانتقال إلى المرحلة الثانية منه، إلا أن الترجمة الفعلية لهذا الموقف على أرض الواقع لا تبدو بالشكل المُتوقّع والمأمول، إذ يغيب رد الفعل الأميركي المُنتظر على جملة الاختراقات الإسرائيلية، ويسود الصمت المريب إزاء ما يقوم به العدو من اعتداءات، بل ونشهد في الكثير من الأحيان تبريراً أميركياً لاستمرار العدوان، وحرفاً للحقائق وتزويراً للوقائع، وهو الأمر الذي يُلقي كثيراً من الشك حول حقيقة هذا الموقف، ويضعه في خانة الاتهام، كما هي الحال بالنسبة لحليفه الصهيوني، الذي يضرب بعرض الحائط كل ما تم التوصّل إليه من اتفاقات.
ثالثاً/عجز الوسطاء:
في كل اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة أي منذ اتفاق العام 2005، تميزت مواقف الوسطاء الإقليميين والدوليين بالضعف والعجز، إذ لم يسبق لهم أن نجحوا في إلزام العدو بشروط تلك الاتفاقيات، ولم يملكوا أي أوراق ضغط ترغمه على وقف عدوانه أو حتى الوفاء بجزء مما نصّت عليه تلك الاتفاقيات.
في الاتفاق الحالي والذي شارك في وساطته كلٌ من مصر وقطر وتركيا، بدا لوهلة ما أن هؤلاء الوسطاء سيكونون قادرين على القيام بما لم ينجحوا فيه من قبل، إلا أن الأوضاع على الأرض بعد أسبوعين من بدء الاتفاق تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن الأمور لم تتغيّر، بل ربما ازدادت سوءاً عما كان يحدث في المرات السابقة، ولا سيما أن العدو الصهيوني يتعامل مع ما تم التوصّل إليه من اتفاق بأنه إنجاز خالص وحاسم، وأن عليه استثماره خصوصاً لناحية الاستمرار في فرض سيطرة عملياتية على أكثر من نصف قطاع غزة، والتحكّم في كل ما يدخل ويخرج من هذا القطاع الصغير والمنكوب والمُحاصر.
رابعاً/استمرار الانقسام الفلسطيني:
منذ وقوع الانقسام الفلسطيني عقب أحداث منتصف العام 2007 الدامية، والتي سيطرت بعدها حركة حماس على مقاليد الحكم في قطاع غزة بعد طرد السلطة الفلسطينية منه، ألقى هذا الانقسام بظلال قاتمة على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني، وترك آثاراً كارثية على كل ما يتعلّق بحياة المواطنين في القطاع، والذين تحمّلوا عبء هذا الانقسام طوال أكثر من ثمانية عشر عاماً مضت.
خلال العدوان على غزة زاد الانقسام الداخلي، والعلاقة المتوترة بين حركتي فتح وحماس من هموم ومشاكل سكّان القطاع، بل إن السلطة في رام الله مارست دوراً أقل ما يمكن أن يُقال عنه بأنه لا مبالٍ، أو غير معني بكل ما يجري في القطاع، بل ووصل في بعض الأحيان إلى حد المشاركة في الحصار من خلال إغلاق البنوك، وملاحقة الحوالات البنكية والمصرفية، وابتزاز الكثير من المواطنين ودفعهم إلى التحريض على المقاومة ومعركة طوفان الأقصى.
حتى الآن يفشل طرفا الانقسام في الاتفاق على تشكيل لجنة مهنية من التكنوقراط تدير أمور القطاع في المرحلة الانتقالية، إذ تّصر السلطة على الاستفراد بحكم القطاع في المرحلة المقبلة، وإبعاد كل خصومها، وفي المقدمة منهم حركة حماس عن كل شؤونه العامة والخاصة، فيما تُبدي حماس من جانبها رغبة واضحة في المشاركة في الحكم وإن من خلف الستارة، وهو الأمر الذي يُبقي الأوضاع في غزة خصوصاً مسألة الإعمار والتعويضات معلّقة بانتظار تشكيل لجنة أو جهة ما للقيام بتولي مسئولية هذا الامر.
على كل حال، ومع أننا نتمنى كما كل أهالي قطاع غزة المنكوب أن يستمر وقف إطلاق النار، وأن ينعم السكّان والمواطنون بفترة من الراحة لالتقاط أنفاسهم، والاستعداد لمرحلة لا نراها أقل خطورة وحساسية من الحرب وهي مرحلة الإعمار والبناء، ورفع الحصار، إلا أن الواقع للأسف لا يشير إلى قرب حدوث ذلك، فما أشرنا إليه من تحدّيات وغيرها مما لا يتّسع المجال لذكره قد تُسقط هذه الأمنيات أرضاً، وقد تنسف كل الأحلام الوردية التي راودت الفلسطينيين بعد الإعلان عن الاتفاق الذي طال انتظاره.
قد نكون متشائمين بعض الشيء نتيجة ما عشناه من أحداث، وقد تكون هواجس الحرب الطويلة قد دفعتنا إلى هذا الاعتقاد، إلا أن ثقتنا بالله لم تهتز رغم أهوال العدوان، ولم تتزحزح رغم المآسي والجراح، هذه الثقة التي تجعلنا نقف حتى اليوم على أقدامنا نواجه هموماً كالجبال، ونتصدّى لمشكلات تنزل علينا كالصواعق، وتجعلنا نؤمن أن الغد الآتي سيكون حتماً أجمل، وأن النصر لن يكون إلا لشعبنا العزيز ومقاومتنا البطلة والشريفة.