الدور المصري المستجدّ بين قمتي القاهرة والجزائر

منذ العدوان الأميركي على العراق، ومصر تحاول إقناع أميركا بأنها أكثر قدرة من "إسرائيل" على حماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وأن شرعيتها العربية و"قيادتها الأمة " جزءٌ من قوتها، بينما لا شرعية ولا تأثير لـ"إسرائيل". 

  • كانت مصر، إذا دعت إلى مؤتمر قمة، أفريقية كانت أو عربية، يهتزّ العالم بأسره
    كانت مصر، إذا دعت إلى مؤتمر قمة، أفريقية كانت أو عربية، يهتزّ العالم بأسره

عندما حكم الناصريون مصر، كانت مصر "أم الدنيا"، ترعى حركة التحرُّر الوطني الفلسطيني وسائر حركات التحرر العربية، وتقود حركات التحرر العالمية في آسيا وأفريقيا، كما تقود دول عدم الانحياز، وتخلق موازين قوى دولية جديدة لمصلحة تحرُّر الشعوب. فأين هي اليوم من كل هذا؟

عندما تُوُفي جمال عبد الناصر انقلب السادات و"القطط السّمان" على نهج عبد الناصر، ورفع السادات شعار "مصر أولا"، فتراجعت مصر من قائدة تمشي في المقدمة، إلى مصر تابعة تنتظر الفتات، تسترضي السيد الأميركيّ الذي "يملك كل أوراق اللعب"، وفق القول الشهير لأنور السادات. وبدلاً من أن تستمرّ مصر في التطور، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فوق التطور الهائل الذي حدث في فترة حكم عبد الناصر، تراجعت مصر إلى درجة أننا لو راجعنا مجموع البنى التحتية والمشاريع الاستراتيجية، التي تتفاخر بها مصر اليوم، فسنجد أن أغلبيتها أُنجزت في تلك الفترة الناصرية، وأن نصف قرن من حكم "القطط السمان" لم ينجز شيئاً يُذكَر. ربما يفهم من يفكّر قليلاً لماذا لم تقم أميركا ببناء دولة في أفغانستان خلال عشرين سنة مضت، ولا أقامت مشاريع استراتيجية في البنى التحتية. في المقابل، نجد أن كل ما هو قائم مِن البنى التحتية في أفغانستان اليوم، لا يزال يذكّرنا بالفترة التي قدَّم فيها الاتحاد السوفياتي مساعدته إليها، عسكرياً واقتصادياً. هذه حقائق موضوعية لمن يتوقف قليلا عند الحقائق ولا يقفز عنها، بهدف التضليل.

كانت مصر، إذا دعت إلى مؤتمر قمة، أفريقية كانت أو عربية، يهتزّ العالم بأسره، أو يُنصت إلى خطاب الرئيس عبد الناصر: تُرى، ماذا سيقول؟ لأنه إذا قال فعل. وإذا فعل غيّر موازين القِوى. أمّا اليوم، فتتوالى مؤتمرات القمة، "قِمم على قِمم"، كما قال الشاعر الكبير مظفّر النواب، فتتراكم "القمم" لتصبح حالة من المكرهة الصحية، التي تحتاج إلى عملية تدوير.

قمة القاهرة الثلاثية

جاء مؤتمر القمة الثلاثية يوم الخميس الماضي، بعد زيارة قام بها مدير "السي آي أيه"، وليام بيرنز، قبل نحو أسبوعين لكل من "تل أبيب" ورام الله وعمّان. خلال ذلك، نقل إلى الزعماء العرب موقف "إسرائيل" القائل إن لا مسيرة سياسية في الأفق، وإن ترتيبات أمنية يجب أن تُتَّخَذ بدلاً من ذلك، وخطوات اقتصادية لا بد منها للمحافظة على سلطة رام الله في قيد الحياة. وأكد وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، كل هذا خلال لقائه محمود عباس في رام الله قبل القمة بثلاثة أيام.

ماذا قرّر أو فعل "الزعماء الثلاثة"، السيسي وعباس وعبد الله، في قمة القاهرة يوم الخميس الماضي؟

 لا قرارات ولا أفعال، وإنما نَدْب وتعزية ولطم على الخدود، وإعلان متكرر عن العجز، ونداء لاسترضاء المستكبِر، والأهم هو التنسيق الثلاثي للسير في مخطَّط تحويل القضية الفلسطينية من حقوق وطنية وسياسية، إلى قضية أمنية تتطلَّب تنسيقاً على مستوى "القمم"، في مقابلها يتم تحسين الحالة الاقتصادية لـ"القطط السمان" الفلسطينيين في السلطة. تنسيق أمني "مقدّس" تطلبه "إسرائيل"، وتُقرّه في "تل أبيب"، لينقله وليام بيرنز إلى مصر، فتقوم الأخيرة بإخراجه ضمن قمة مثلّثة، كي يبدو مقترحاً مصرياً حريصاً على الحقوق الفلسطينية. إنه، في جوهره، تنسيق أمني ضد المقاومة الفلسطينية، وضد أيّ حَراك تحرُّري، أو مقاوم للهيمنة الإسرائيلية، في الشرق الأوسط. علّ وعسى، ترضى أميركا عن تابعيها!  ولن ترضى.

تحدّثت وسائل إعلام فلسطينية رسمية عن أن مؤتمر القمة في القاهرة جاء من أجل تنسيق موقف عربي مشترك استعداداً للاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. فهل يحتاج هذا الاستعداد لمؤتمر قمة إلاّ إذا كان فيه موقف أو إجراء جديد يستحق المناقشة على مستوى القمة؟ إن مراجعة بسيطة للبيانات الختامية، والتي صدرت عن القمم الثلاثية السابقة، مقارنة بالقمة الأخيرة، لا نجد فيها إلاّ تراجعاً عما سبق، أو تكراراً لمواقف شكلية لا حياة فيها.

لقد جاء في البيان الختامي للمؤتمر أن "القادة وجَّهوا المسؤولين في الدول الثلاث إلى العمل معاً من أجل بلورة تصوُّر لتفعيل الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات، والعمل مع الأشقاء والشركاء من أجل إحياء عملية السلام وفقاً لقرارات الشرعية الدولية". ما الجديد؟ ألم يكن هذا تكراراً مَقيتاً لتوجيهات سابقة في مؤتمرات قمة عُقدت في القاهرة أيضاً، عشيةَ كل اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة؟ أمّا اللاّفت للانتباه، فهو تصريح محمود عباس لوسائل الإعلام بعد اختتام المؤتمر، إذ قال: "إن الممارسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة خلقت واقعاً لا يسمح بتحقيق حلّ الدولتين"!! إذا كان الأمر كذلك، وكان الرئيس عباس مقتنعاً به، فعن أيّ مفاوضات أو عملية سلام يتحدث البيان الختامي؟ وأيّ موقف عربي مشترك سيُعرَض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهايةَ هذا الشهر؟ ألم يَحِن الوقت ليترك العاجزون مواقعهم القيادية، وينتقلوا إلى بيوت العجزة؟ أم أنهم مصرّون على تحطيم ما تبقّى من أمل لدى الشعوب، وهذا دورهم المَنوط بهم؟

لكنْ، في تقديرنا، أن أهم ما جاء في البيان الختامي هو:

أولاً، تثبيت الدور الأردني في "رعاية الأماكن المقدَّسة الإسلامية والمسيحية"، وهي في الواقع مستباحة من المحتل الإسرائيلي، ولا تحظى بأيّ رعاية فعلية، إلاّ كلامية، إلى حين الإجهاز على الحقوق الفلسطينية في القدس المحتلة كاملة.

ثانياً، تثبيت الدور المصري في رعاية الهدنة وإعادة الإعمار في قطاع غزة، مع دعوة المجتمع الدولي إلى بذل جهوده من أجل تخفيف الأزمة الإنسانية في القطاع". أليست هذه هي المطالب الإسرائيلية ذاتها؟ الأول، تحويل الحقوق الفلسطينية، الوطنية والسياسية، إلى "أزمة إنسانية"، يتحمّل المجتمع الدولي، وليس المحتل الإسرائيلي، مسؤولية "تخفيفها"، وليس أكثر. ثانياً، توكيل الطرف المصري فيما يتعلق بإدارة الشؤون الأمنية والاجتماعية لقطاع غزة. مع التذكير بتصريح محمود عباس، في الفترة الفاصلة بين اجتماعه بغانتس واجتماع القمة في القاهرة، ومفاده أن "أيّ مصالحة مع حماس يجب أن تتضمّن اعترافاً مسبّقاً وصريحاً، على لسان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس شخصياً، بقرارات الشرعية الدولية". فهل أصبحت سلطة أبي مازن وكيلاً للاحتلال الإسرائيلي، وهي التي تفرض شروطه المسبَّقة على فصائل المقاومة في قطاع غزة؟

الدور الإقليمي لمصر

منذ العدوان الأميركي على العراق، ومصر تحاول إقناع أميركا بأنها أكثر قدرة من "إسرائيل" على حماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وأن شرعيتها العربية و"قيادتها الأمة " جزءٌ من قوتها، بينما لا شرعية ولا تأثير لـ"إسرائيل". 

أهان حسني مبارك ياسر عرفات على ربيعة البيت الأبيض، وأجبره على التوقيع على "اتفاقية أوسلو" بالرغم من التغيير الذي أُدخل فيها في اللحظة الأخيرة، ولا تزال الدوائر الإسرائيلية تكرّر تلك الكلمات البذيئة التي استخدمها مبارك ضد عرفات، آنذاك، خدمة لتوجيهات البيت الأبيض و"إسرائيل". كما جيّش حسني مبارك جيوش العرب ضد العراق وصدام حسين، بحُجة الدفاع عن الكويت، وجنّد الجامعة العربية لتتخذ قرارات تغطي العدوان الأميركي على العراق، ووقف ضد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وساند محمود عباس ضد عرفات، تماشياً مع التوجيهات الأميركية، ومات ولم يحدث ما يريد.

لم يتردّد الرئيس محمد مرسي (الإخونجي) في رسائل النفاق إلى شمعون بيريز، عله يحصل على رضاه، لكنه مات ولم يحصل على أيّ دور. جاء السيسي، وهو يحاول استرضاء أميركا أولاً، لكنه أدرك ضعفه وضعف مصر، مقارنة بدول الخليج الغنية والمؤثِّرة بمالها، حتى في المواقف المصرية. تقرّب إلى السعودية والإمارات ولم يُجْدِ نفعاً. تقرّب إلى "إسرائيل"، وهو يُبدي استعداداً للتنسيق معها. يحاول، مرة تلو الأخرى، إثبات إخلاصه للمطالب الأمنية الإسرائيلية في مقابل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأحياناً أخرى حتى على حساب الحقوق الإنسانية لأهالي القطاع، لكن من دون جدوى.

حاول السيسي استعادة رضا أميركا من خلال تأييده السريع اتفاقيات أبراهام بين الإمارات والبحرين و"إسرائيل"، وبين السودان و"إسرائيل"، وبين المغرب و"إسرائيل"، لكن من دون جدوى. يحصل على تفويض فلسطيني من رام الله، ويساهم في محاصرة "حماس"، وفق التوجيهات الإسرائيلية، من أجل ابتزازها وتقديم تنازلات إلى "إسرائيل"، إن كان عبر محاولة إقناع المقاومة بقَبول الشروط الإسرائيلية للتهدئة، مع ضمانات مصرية كاذبة، أو بقَبول الشروط الإسرائيلية لتبادل الأسرى ـ لكن من دون جدوى ـ أو بالمشاركة في الحصار المجرم على القطاع عبر إغلاق المعبر الوحيد.

في السنة الأخيرة، تُكثّفُ مصر جهودها من أجل القيام بدور وظيفي لخدمة الاستراتيجية الأميركية و"إسرائيل"، ولاسيما أن أميركا تستعد لانسحاب كبير من الشرق الأوسط. سهّلت مصر اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل"، كما ذكرنا أعلاه، وسمحت لها بأن تأخذ عضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي(؟!)، وهي ليست دولة أفريقية. رفضت انضمام سوريا ولبنان إلى مشروع الشام الجديدة، والذي عُقدت قمته الأولى في بغداد قبل ثلاثة أشهر، وشارك فيها السيسي وعبد الله الثاني والكاظمي، خشيةَ غضب أميركا و"إسرائيل".  رفضت "مصر السيسي" دعوة سوريا إلى المؤتمر الإقليمي، الذي عُقد في بغداد أيضاً، وشاركت فيه دول الخليج وتركيا وحتى فرنسا، ولم تُدْعَ إليه سوريا، مع أنها أقرب الدول إلى العراق، استجابةً للتوجيهات الأميركية. بعد أيام قليلة منه، قبلت مصر دعوة أميركا إلى تزويد لبنان بالكهرباء والغاز عن طريق الأردن فسوريا فلبنان(؟!!). كيف صارت المشاركة مع سوريا شرعية، وكانت عكس ذلك قبل يومين؟! وإذا كان لدى مصر فائضٌ من الكهرباء لِتَمُدَّ به العراق والأردن ولبنان، فلماذا لا تَمُدُّ به قطاع غزة المحاصَر؟ وهل الغاز، الذي تَعِدُ به مصر، هو غاز مصري، أم إسرائيلي من البحر المتوسط؟ 

تُجْمِع مراكز الأبحاث الإسرائيلية على أهمية الدور المصري في أيّ تسوية أمنية مع "حماس"، باستثناء بعض الكتّاب، الذين يتَّهمون مصر بغضّ الطرف عن تزوّد "حماس" بالصواريخ عن طريق سيناء. لكنّ هذه الاتهامات قد تكون وسيلة ضغط على مصر، من أجل إبقائها في الزاوية، وعليها أن تُثبت العكس. لقد كان الدور المصري ـ ولا يزال ـ دوراً وظيفياً لخدمة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بصورة عامة، والأهداف الإسرائيلية بصورة خاصة. لكن مصر تحتاج إلى الملف الفلسطيني لتأخذ من خلاله شرعية عربية شعبية، وتستخدمه، في الوقت ذاته، لتدفع به في مقابل امتيازات تحصل عليها من أميركا و"إسرائيل".

"لإسرائيل مصلحة في أن تستمر المنحة المالية القطرية لقطاع غزة"، يقول التقرير الأخير لـ"مركز أبحاث الأمن القومي في إسرائيل" (27/7/2021)، على أن تُوجَّه إلى الحاجات الإنسانية، ولا يُسمح لـ"حماس" بالتعاظم العسكري، وأن يمر هذا المال عن طريق مصر أو رام الله، وفق جهاز رقابة جديد، وليس جهاز رقابة حمساوياً. ويضيف مُعِدّو التقرير "اليوم، كما في الماضي، تشكّل مصر قوة مهيمنة في منطقتنا، سياسياً وعسكرياً وثقافياً، وتؤثّر في مجمل موازين القوى في الشرق الأوسط، وأفريقيا، والبحرين الأحمر والمتوسط. وتعوّل إسرائيل على الدور المصري في مسيرة السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وعلى دورها الوسيط بين فتح وحماس". 

 أمّا بشأن علاقة مصر وقطر، فيقول التقرير "إن التقارب بين مصر وقطر يمكن أن يخدم المصالح المصرية، المتعلّقة بمجمل القضايا الإقليمية والثنائية. إن توحيد الصف العربي حول قيادة مصر الإقليمية، وخصوصاً في موضوع التسوية بين إسرائيل وحماس في غزة، من شأنه أن يعزّز دور مصر في نظر إدارة بايدن، ويوجد الشقوق في المحور الإسلامي ـ التركي ـ القطري، ويخفّف الانتقادات للدور المصري عبر شاشة الجزيرة منذ عام 2013، ويعزّز العلاقات الاقتصادية بين مصر وقطر من خلال استثمارات قطرية في مصر في مشاريع متعدِّدة، بما في ذلك المجالات العقارية والسياحية والمالية".

"إسرائيل" تدرك الطموحات المصرية جيداً، والأهداف الاقتصادية والسياسية التي تطمح إليها مصر من خلال أداء الدور الوظيفي هذا. وهي تستغلّ ذلك إلى أبعد الحدود. فمصر أصبحت شريكة أساسية لشبكة الغاز الإسرائيلية ـ الإماراتية في الشرق الأوسط، وشريكة لـ"إسرائيل" فيما يُسَمّى استراتيجية شرق المتوسط، ومسهّلاً للاختراق الإسرائيلي في أفريقيا، ولاعباً أساسياً في الضغط على "حماس"، إن كان عبر التسوية المرجوّة مع "إسرائيل"، أو عبر شروط المصالحة الفلسطينية وشرط الاعتراف بـ"إسرائيل".

في الأمس، بادرت الجزائر إلى عقد قمة عربية أطلقت عليها اسم "قمة فلسطين"، وهدفها إحياء الموقف العربي الوحدوي بشأن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وطرد "إسرائيل" من عضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي. فهل ستساندها مصر، أم ستعمل على إفشال الجهود الجزائرية؟