تركيا عام 2020.. انتظروا المفاجآت
مع استمرار الحديث والرهان حول احتمالات التدخل العسكري التركي المباشر في ليبيا، يبدو واضحاً أن عام 2020 سيكون مليئاً بالمفاجآت "الإردوغانية" التي اعتادها الجميع في المنطقة والعالم وعلى الأصعدة كافة، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والنفسية.
فقد كان 2019 "عاماً تركياً" بامتياز، بدليل أن 80% على الأقل من الأخبار التي شغلت بال الناس في المنطقة كانت ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتركيا ودورها وسياساتها العلنية والسرية التي فرضت نفسها على الجميع.
كما هو الحال عليه الآن في ليبيا، كخطوة لاحقة لما كان عليه في سوريا، وقبل ذلك العراق والمنطقة بأكملها، بعد ما يسمّى "الربيع العربي". فقد سعى بعض الأوساط والقوى في الغرب "الصهيو- إمبريالي" لتسويق ما يسمّى "النموذج التركي الديمقراطي العلماني الإسلامي المعتدل"، أي حزب العدالة والتنمية، إلى الدول العربية، في إطار ما يسمّى مشروع الشرق الأوسط الكبير أو "الجديد"، بحسب وصف كونداليزا رايس لاحقاً في حزيران 2006، خلال زيارتها لتل أبيب.
وأثبتت السنوات اللاحقة أن "العقلاء" في واشنطن من تلامذة كيسنجر وبريجنسكي كانوا بارعين في "بضاعتهم الخضراء الجديدة" التي خلقت واقعاً جديداً في العالم العربي والإسلامي، بعد أن نجح "حزامهم الأخضر" في إسقاط الاتحاد السوفياتي وتمزيقه بفضل "بضاعة خضراء" جديدة، وكان نموذجها آنذاك سعودياً وهابياً بامتياز.
وجاءت أحداث ليبيا لتضع النموذجين التركي "الأخضر الجديد"، والسعودي "باصفراره" وجهاً لوجه في ليبيا، بلد الزعيم الراحل القذافي الذي راح "خضاره" ضحية لمؤامرة "صهيو-إمبريالية"، انتقمت واشنطن خلالها من العقيد الشاب الذي أغلق قواعدها وكتب كتابه الأخضر وأعلن "ثورته الخضراء"، فارتكب الكثير من الأخطاء.
2019 أثبت بكل وضوح أن الدول العربية والإسلامية وشعوبها المغلوبة على أمرها ومثقفيها الضائعين بين الوطنية والولاء، وقليل منهم شرفاء مخلصون، لا حول لهم ولا قوة، وسوف يرون جميعاً أن القادم أصعب إن لم نقل أسوأ، بل لنقلها بصراحة أخطر وأحقر طالما أن العبر والدروس لم تعد موجودة إلا في المقولات المأثورة التي يتسلى بها المظلومون.
فقد بات واضحاً أن تركيا إردوغان لن تتراجع عن برنامجها الذي تعتقد أنه الأمثل "لتحقيق أهدافها الكبرى" بغياب المنافسين لها. فقد قال الرئيس إردوغان في اليوم الأخير من 2019 "إن هدفنا هو أن يكون لنا دور مؤثر في تقرير مصير أنتاركتيكا القارة القطبية الجنوبية"، أما مستشاره للشؤون العسكرية، عدنان تانري فيردي، فقد أشار إلى "مهمة تركيا العظمى لرفع راية الإسلام، وأن الجيش التركي بات مستعداً لذلك، وأن كل ما يفعلونه هو انتظار لمجيء المهدي".
المستشار السياسي إبراهيم كالين، وفي الإطار نفسه، قال "يخطئ من يظن أن أمننا القومي ينتهي عند حدود تركيا الجغرافية الحالية. إن حسابات هذا الأمن تبدأ بعد حدود الميثاق الوطني، وهو ما يمتد حتى ليبيا، لأنها دولة جارة لنا في البحر. لذا أمن ليبيا جزء لا يتجزأ من أمن تركيا القومي، ويجب أن لا ننسى أن ليبيا كانت داخل حدود الدولة العثمانية".
والحديث عن الميثاق الوطني أصبح عرفاً جديداً في أدبيات الرئيس إردوغان بعد 2011، ليحدد بذلك أهداف تدخله في سوريا، وهو ما غاب عن أذهان الأوساط السياسية العربية وكوادرها المثقفين الذين انتبهوا إلى الموضوع، وكما يقول المثل "بعد خراب البصرة".
فقد رسم الميثاق الوطني لعام 1920 حدود الدولة التركية قبل قيام الجمهورية التركية عام 1923، بحيث كانت تشمل الشمال السوري بأكمله، تضاف إليه ولاية الموصل التي تضم الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل، التي أصبحت جزءاً من العراق بعد اتفاقية 1925 بين أنقرة ولندن. وضعت فرنسا قبل ذلك الشمال السوري تحت انتدابها، إلى أن تمّ التنازل عن لواء إسكندرون لتركيا عام 1938.
فالحديث عن حدود الميثاق الوطني بعد سيطرة الجيش التركي على غربي الفرات و100 كلم من شرقيه، يحمل في طيّاته الكثير من المعاني والرسائل التي يبدو أن الرئيس إردوغان يريد أن يقول من خلالها لمن يفهم أو لا يفهم إنه لا ولن يتراجع عن مشاريعه ومخططاته. فهو يريد لهذه المخططات أن تجعل من تركيا دولة عظمى، ومنه شخصياً زعيماً، ليس فقط سياسياً بل تاريخياً وعقائدياً، طالما أنه وريث الإمبراطورية العثمانية الكبرى التي لم تصل أنتاركتيكا، بل حكمت أجزاءً واسعة من أوروبا والمنطقة العربية، ويعرف إردوغان أنها بوضعها الحالي لا ولن تستطع التصدّي له، بل إنها ستخدمه بشكل مباشر وغير مباشر.
فقطاعات واسعة من هذه الشعوب معجبة بأساليب إردوغان "حامي حمى المسلمين وزارع الرعب في قلوب الصليبيين والصهاينة"، إن لم يكن بقوة السلاح فبقوة الإعلام الذي يستفيد منه إردوغان بشكل ناجح، وإلا فلماذا يتحدث يومياً في أي موضوع كان.
أما داخلياً، فلكي يبقى الحاكم المطلق للبلاد ومسيطراً على الشارع الشعبي وشحنه قومياً ودينياً وخارجياً ليقول لمن يريد أن يسمعه "إنه الأقوى والشجاع الذي انتصر وسينتصر على أعداء الأمة الإسلامية في كل مكان طالته وستطوله يداه، بإذن الله".
وكل ذلك يحتاج إلى مزيد من المغامرات، بحسب كلام المعارضة التي لا تخفي قلقها من سياسات إردوغان الذي ورّط تركيا في سوريا، والآن في ليبيا، وهو يعتقد أنه لا يمكن حماية مكاسبه في سوريا إلا بمواقع متقدمة في ليبيا.
وهذا ما ألمح إليه، أمر الله إيشلار، مستشار الرئيس إردوغان للشؤون الليبية حيث قال قبل فترة "لا يمكن حلّ المشكلة الليبية بمنأى عن المشكلة السورية واليمنية، فإذا تم حلّ المشكلة السورية، حينها سيكون حل المشكلة اليمنية والليبية سهلاً، لأن جميع الأطراف في جميع هذه المشاكل هي واحدة".
وفي هذه الحالة يعتقد الرئيس إردوغان، والقول للمعارضة أيضاً، أن حماية المصالح التركية في ليبيا تحتاج إلى موطئ قدمٍ في تونس بل في الجزائر، وربما موريتانيا والسودان، وكل ذلك لتضييق الحصار على عدوّه اللدود، السيسي في مصر.
وهنا تعود بنا الذكريات إلى العلاقة أو المنافسة أو العداء التاريخي بين إسطنبول والقاهرة التي دخلها السلطان سليم بعد معركة الريدانية في 22 كانون الثاني 1517، وقد يدخل الجيش التركي طرابلس بعد 503 سنوات كما دخل جرابلس بعد 500 سنة من معركة مرج دابق، وللتاريخ دائماً معانيه، خاصة بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، وإلا لما تغنّى دائماً بأمجاد الدولة العثمانية وسلاطينها. والذين كان بعضهم دموياً، وأهمهم سليم الذي اشتهر بقتل والده وجميع أشقائه وشقيقاته وعائلاتهم وعدد كبير من وزرائه قام بمجازر لا تعدّ ولا تحصى، إلا أنه الأكثر شهرة حتى الآن في تركيا.
ويبقى الرهان الأخير أولاً على المواقف المحتملة للدول العربية وأنظمتها التي تأتمر بأوامر واشنطن، وثانياً على أولئك الذين يعتقدون أن إردوغان زعيمهم الأوحد، وإلى أن يتخلى هو عنهم شخصياً!