هل يمثّل 7 أكتوبر وما بعده مصيدة استراتيجية للكيان؟
يجد الكيان نفسه كالمقامر الذي يريد أن يجد مخرجاً من خسارة، فيستمر باللعب أملاً في تعويض الخسارة، ليجد نفسه يخسر أكثر.
ضمن إطار ردّ الفعل على عمليات اغتصاب الأرض والحقوق، المستمرة ضد الشعب الفلسطيني على مدار عقود، جاءت عملية 7 أكتوبر لتشكّل ضربة كبرى وغير مسبوقة للكيان، سواء ضمن نتائجها القصيرة أو طويلة المدى. وهكذا، فهي تبدو بمثابة مصيدة استراتيجية للكيان من حيث صعوبة الخروج منها والتعافي، أياً كان رده عليها.
الامتناع عن الرد على الضربة، كأحد الخيارات، وهو ما لم يحدث بالطبع، يفرغ المشروع الصهيونى من أحد أهم عناصره، وهو توفير الأمن لمستوطنيه، الأمر الذي تجلى واضحاً في الانهيارات العسكرية والأمنية السريعة لفرق نخبة من "جيش" ما دام يُصور بأنه "لا يقهر"، وفي داخل أراضي 1948، ولأول مرة منذ إقامة الكيان، ما شكل صدمة يصعب عليه الاستفاقة منها حتى الآن.
ومع غياب الأمن الّذي اعتاده سكّان الكيان، من الصّعب أن تبدو الإغراءات المعيشية والمادية التي يقدمها مقنعة لهم. وبالنظر إلى كون غالبية كبيرة منهم من مزدوجي الجنسية، فإن مجرد تداول موضوع مغادرة هؤلاء للكيان وعودتهم إلى دولهم الأصلية (كونه خياراً أكثر أماناً) بحد ذاته يشكل ضربة كبرى في صميم المشروع الصهيوني، سواء كان ذلك على المدى القريب أو البعيد.
ولا يبدو أنَّ خيار الرد على الضربة (وهو ما حدث بالفعل من خلال العدوان الإجرامي الذي شنه الكيان) قادراً على استعادة عنصر الأمن، بل ربما أدى إلى تفاقم الإحساس بغيابه، وذلك في ظل فشل عسكري كبير في غزة لثلاثة أشهر ونصف شهر حتى الآن في مواجهة مقاومة شرسة ومدربة وذات عقيدة قتالية وصمود شعبي أسطوري، بالرغم من عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، والمعاناة الإنسانية الضخمة، والتدمير الممنهج لمقومات الحياة، ومخاطر التهجير، فلا البنية التحتية للمقاومة تم تفكيكها، ولا المحتجزون تم استرجاعهم.
ومع تفاقم الفشل، فإن خيار وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى (الذين سيشتد بهم ساعد المقاومة إن تم إطلاق سراحهم) لن يعيد الأمن المفقود، بل سيعزز الشعور بفقدانه في ظل بنية تحتية متماسكة للمقاومة، ومتعاظمة بشكل مذهل مع مرور السنين، ما يشكل طريقاً مسدوداً آخر في وجه الكيان.
هكذا، يجد الكيان نفسه كالمقامر الذي يريد أن يجد مخرجاً من خسارة، فيستمر باللعب أملاً في تعويض الخسارة، ليجد نفسه يخسر أكثر. ويبدو أن هذا يقود الكيان إلى حربٍ مستمرة تأخذ طابعاً استنزافياً، وخيار حرب الاستنزاف محفوف بالمخاطر للكيان وداعميه الذين عادة ما يتفوقون في الحروب السريعة المكثفة، وليس في حروب الاستنزاف. وهنا، ينبغي التوقف قليلاً لإدراك مخاطر خيار حرب الاستنزاف على الكيان.
من حيث السوابق، كان للكيان تجارب في حروب الاستنزاف أدت إلى خروجه من جنوب لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005، مع الأخذ بالاعتبار أنّ قدرات المقاومة في لبنان وغزة كانت أقل بكثير مما عليه الآن. وينطبق الأمر ذاته على القوات الأميركية وهزائمها المتوالية في حروب الاستنزاف التي خاضتها المقاومة ضدها في فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق.
ومن حيث الدعم والإسناد للمقاومة، هناك توافق بين القوى ذات النفوذ في مناطق شمال وشمال شرقي فلسطين والامتدادت الجغرافية لتلك المناطق (لبنان، سوريا، العراق، إيران)، وتلك جبهة هائلة الضخامة والإمكانات، مضافاً إليها اليمن، ما يضعف شهية الكيان لشن حرب جيوش نظامية (ما لم ينخرط فيها حلفاؤه الغربيون بشكل مباشر)، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار وتعزيز عمليات الاستنزاف التي تقوم بها القوى المختلفة ضمن تلك الجبهة ضد الكيان وداعميه.
ومن حيث التوقيت، فهو أيضاً معضلة للكيان وحلفائه، فالكيان يعاني انقسامات داخلية حادة، وحلفاؤه الغربيون مستنزفون بعد ما يقارب عامين في الحرب الروسية الأوكرانية وما أنتجته من مصاعب اقتصادية يعانيها الغرب الآن.
ومع اقتراب الانتخابات في الولايات المتحدة، وطول مدة الحرب، وازدياد الوعي العالمي بجرائم الكيان وداعميه، تبدو الأمور معقدة بالنسبة إلى داعمي الكيان من حيث درجة وشكل ونوعية الدعم الذي يستطيعون تقديمه في الفترة المقبلة.
أضف إلى ذلك التقارير الواردة عن وجود مشكلات في مخزونات الذخيرة التابعة لحلف "الناتو"، والمستخدمة في الدبابات والمدفعية على وجه التحديد، بعد استهلاك جزء كبير من تلك المخزونات في القتال ضد الجيش الروسي الهائل الإمكانيات في حرب أوكرانيا لمدة عامين وحرب الكيان، ما أضعف قدرة مصانع الذخيرة على مواكبة الطلب.
وبفعل هذه العوامل مجتمعة، يغدو خيار حرب الاستنزاف محفوفاً بالمخاطر للكيان إذا ما قرر الاستمرار فيه. ولن يقتصر الاستنزاف على الجانب العسكري، بل سيتعداه إلى حالة ربما تكون الأسوأ في تاريخ الكيان من حيث تراكم الخسائر والتعقيدات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والإعلامية التي بدأت منذ السابع من أكتوبر وما زالت مستمرة بشكل متدحرج، ومن غير نهاية محددة في الأفق، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار لن تجدي معه إلا مقاربة سياسية يتم فرضها على العقل اليميني المتطرف السائد في الكيان، الذي لا يبدو قادراً على استيعاب ذلك، والذي يعيش حالة من الإنكار والهروب إلى الأمام، ما قد يعجل حالة الانهيار بدلاً من أن يوقفها.
وفي ظل كل الخيارات السابقة، يبدو أن من خطّط وأدار عملية 7 أكتوبر وما بعدها، يعلم أن هناك ثمناً كبيراً يتوجب على الكيان دفعه أياً كان الطريق الذي سيسلكه. وهنا تكمن المصيدة الاستراتيجية.