لبنان بين الطائفة والدولة: هل ما زال العقد الاجتماعي ممكناً؟
لبنان، رغم تعقيداته، لا يفتقر إلى الموارد البشريّة، ولا إلى الطاقات الفكريّة، بل إلى عقدٍ سياسي جديدٍ، يُحرّر الدولة من أسر الطائفيّة، ويُعيد للمواطنة معناها الحقيقي.
- 
الخروج من مأزق الدولة الطائفيّة في لبنان يتطلّب قطيعةً جذريّةً مع منطق المحاصصة (أرشيف).  
يُشكّل لبنان حالةً فريدةً في المشرق العربي، إذ تتعايش فيه ثماني عشرة طائفةً معترفاً بها رسميّاً ضمن نظام سياسي يُوصف بـ"الديمقراطيّة التوافقيّة".
غير أنّ هذا النظام، الّذي تأسّس على مبدأ التوازن الطائفي لضمان الاستقرار والتّنوّع، تحوّل عبر العقود إلى عائق بنيوي أمام بناء عقد اجتماعي وطني جامع. فبدلاً من أن تكون الطائفيّة تعبيراً عن تنوّع ثقافيّ وديني، أصبحت مؤسّسة سياسيّة تُعيد إنتاج الانقسامات، وتُفرغ مفهوم المواطنة من مضمونه. وهنا يُمكننا طرح الإشكاليّة الآتية: كيف يُمكن بناء عقد اجتماعي وطني في ظلّ نظام يُحوّل الانتماء الطائفي إلى هويّة سياسيّة أوّليّة، ويجعل من الدولة ساحة لتقاسم النفوذ بين النخب الطائفيّة؟
لم تعد الطائفيّة في لبنان مجرّد ظاهرة اجتماعيّة أو دينيّة، بل تحوّلت منذ عهد الانتداب الفرنسي إلى بنية مؤسّساتيّة تنظّم توزيع السّلطة والموارد. فمنذ دستور العام 1926، تمّ تكريس المحاصصة الطائفيّة في المناصبِ العليا للدولة، وهي المعادلةُ الّتي ثُبّتت في "الميثاق الوطني" في العام 1943، ثمّ أُعيد إنتاجها في اتّفاق الطائف سنة 1989. أدّى هذا النظام إلى تحويل الطوائف إلى كيانات سياسيّة واقتصاديّة مغلقة تتنافس على الحصص، بدلاً من أن تكون مكوّنات متكاملة في مجتمع واحد. فالمحاصصة تتغلغل في مفاصل الدولة كافّة: من التّعيينات الإداريّة والقضائيّة، إلى توزيع المشاريع والمناقصات. ومع الوقت، أُفرِغت الدّولةُ من معايير الكفاءة والجدارة، ليحلَّ محلّها منطقُ الولاء الطائفي والزبائنيّة السياسيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ النّخب الطائفيّة احتكرت التمثيل داخل كلّ طائفة، فأنشأت شبكات ولاء ومحسوبيّة تضمن بقاءها، وتمنع أيّ بديل سياسي وطني من الظهور. وهكذا تحوّل النظام إلى آليّة لإعادة إنتاج النّخب نفسها وإدامة الانقسام.
تُعدّ الحرب الأهليّة اللّبنانيّة (1975–1990) أحد المفاتيح الأساسيّة لفهم استمرار الانقسام المجتمعي. فبدلاً من أن تكون ذكرى مؤلمة تُستخلص منها العِبر، تحوّلت إلى أداة سياسيّة بيد النُّخب الطائفيّة لإعادة إنتاج الاصطفافات القديمة. إذ لم تشهد البلاد مصالحة وطنيّة حقيقيّة ولا محاسبة على جرائم الحرب، ما ترك المجال مفتوحاً أمام سرديّات متناقضة، تُغذّي خطاب المظلوميّة التّاريخيّة لكلّ طائفة. فالموارنة يستحضرون مجازر العام 1860، والشّيعة يتحدّثون عن التهميش التاريخي، والسُّنّة عن الإقصاء بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، والدّروز عن صراعات الجبل. بهذه الطريقة، تحوّلت المظلوميّة إلى مكوّن بنيوي للهويّة الجماعيّة، تُبرّر الصّراع على السّلطة، وتُعيد إنتاج الخوف من "الآخر"، فتغدو كلّ طائفة أسيرة ذاكرتها الخاصّة، بدلاً من الانخراط في مشروع وطني مشترك.
هذا وشكّل اتفاق الطّائف (1989) محطّةً مفصليّةً كان يُفترض أن تُمهّد لقيام لبنان جديد قائم على المواطنة والمساواة. فقد نصّ الاتفاق على إلغاء الطائفيّة السّياسيّة تدريجيّاً، وإنشاء مجلس شيوخ، وتطبيق اللّامركزيّة الإداريّة، وإصلاح النظام الانتخابي. إلا أنّ التطبيق العملي اقتصر على البنود الّتي كرّست توازن القوى بين الزعامات، بينما بقيت الإصلاحات الجوهريّة حبراً على ورق. والنتيجة أنّ الدولة استمرّت أسيرة المحاصصة، وتحوّل الاتفاق من مشروع إصلاح إلى مظلّة لتقاسم النفوذ. الإشكاليّة الجوهريّة تكمن في أنّ النظام الطائفي يُقصي الفرد كمواطن، ويُعطي الطائفة صفة "الفاعل السياسي" الأساسي. فالفرد لا يتعامل مع الدولة مباشرةً، بل عبر طائفته وزعيمها، ممّا يُفرغ المواطنة من معناها، ويحوّل العلاقة مع الدولة إلى علاقة زبائنيّة قائمة على المنفعة لا على الحقوق والواجبات.
في ظلّ هذا النظام، يجد المواطن اللّاطائفي نفسه خارج اللعبة السياسيّة والاجتماعيّة. فالقيد الطائفي في الانتخابات، والمحاصصة في الوظائف العامّة، وهيمنة الخطاب الديني والسياسي الطائفي على الفضاء العامّ، كلّها عوامل تُقصي من يرفض منطق الولاءات الطائفيّة. الطبقة الوسطى المتعلّمة، الّتي شكّلت تاريخاً حاملاً لمشروع الدولة المدنيّة، تُعدّ الضحيّة الأكبر لهذا الواقع، إذ لا تتمتّع بالحماية الّتي توفّرها الزعامات الطائفيّة، ولا تستفيد من منظومة الفساد. ومع انسداد الأفق، تُهاجر هذه الفئة بالآلاف، ما يُفرغ المجتمع من طاقاته الفكريّة والمهنيّة، ويترك الساحة للخطابات المتطرّفة الّتي تُعمّق الاستقطاب، وتُضعف أيّ إمكانيّة لولادة هويّة وطنيّة جامعة.
تُشكّل المحاصصة الطائفيّة السّبب البنيوي وراء عجز الدولة اللبنانيّة. فكلّ قرار يحتاج إلى توافق بين الزعماء الطائفيّين، ما يجعل مؤسّسات الدولة رهينة الحسابات الفئويّة. وقد تجلّى ذلك في العجز المزمن عن انتخاب رئيس للجمهوريّة أو تشكيل الحكومات أو إقرار الموازنات العامّة. انعكس هذا الشّلل على الخدمات العامّة الأساسيّة، من الكهرباء والمياه إلى التعليم والصحّة، وصولاً إلى الانهيار الاقتصادي الّذي بدأ عام 2019. فقد فقدت الليرة أكثر من 95% من قيمتها، وتبخّرت ودائع المواطنين، وارتفعت معدّلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة. هذا الانهيار لا يُختزل في بُعده المالي، بل يُمثّل انهياراً للعقد الاجتماعي ذاته: إذ فقد المواطنون ثقتهم بالدولة، وبالمؤسّسات المصرفيّة، وبالنظام السياسي برمّته. فالفساد لم يعد سلوكاً فرديّاً بل منظومة مهيكلة تُديرها النّخب الطّائفيّة لتقاسم موارد الدولة ونهبها.
إنّ الخروج من مأزق الدولة الطائفيّة في لبنان يتطلّب قطيعةً جذريّةً مع منطق المحاصصة، وبناء عقد اجتماعي جديد يؤسّس لدولة المواطنة والمؤسّسات.
ويتطلّب هذا العقد مساراً شاملاً، يقوم على ثلاث ركائز مترابطة، تُشكّل الأساس لأيّ مشروع وطني جامع. تبدأ هذه الركائز بتحقيق العدالة الانتقاليّة وبناء الثقة بين الدولة والمواطنين، إذ لا يُمكن للبنان أن يطوي صفحة ماضيه من دون مواجهة حقيقيّة لجراحه التاريخيّة. ويتطلّب ذلك إنشاء لجنة مستقلّة للحقيقة والمصالحة، تكشف بجرأة ما ارتُكب من جرائم خلال الحرب الأهليّة وما تلاها من ممارسات فساد ممنهجة، بما يُعيد الاعتبار للضحايا، ويؤسّس لمصالحة وطنيّة صادقة. كما لا بدّ من محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات واسترداد الأموال المنهوبة، في إطار إصلاح قضائي شامل، يضمن استقلاليّة القضاء ونزاهته، ويُعيد الثقة بمؤسّسات العدالة كمدخل لبناء دولة القانون.
أمّا الرّكيزة الثّانية، فتتمثّل في تشكيل هويّة وطنيّة جامعة تقوم على مبدأ المواطنة، بديلاً عن الانتماءات الضيّقة الّتي قسّمت المجتمع. ويقتضي ذلك إلغاءً تدريجيّاً للطائفيّة السياسيّة عبر اعتماد قانون انتخابي نسبي يقوم على الدوائر الواسعة، ويُحرّر المواطن من القيد الطائفي، بما يُعزّز المشاركة السياسيّة العابرة للطوائف. كما يستدعي إقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشّخصيّة، يضمن المساواة أمام القانون من دون تمييز ديني أو مذهبي، وإصلاح النظام التعليمي بما يُوحّد الرواية التاريخيّة، ويُعزّز قيم التسامح والانتماء الوطني. وفي هذا الإطار، يُعدّ دعم الطبقة الوسطى وخلق فرص عمل حقيقيّة للشّباب شرطاً ضروريّاً لاستعادة الأمل وتجديد العقد الاجتماعي، باعتبار هذه الفئة ركيزة أيّ نهضة وطنيّة حديثة.
أمّا الرّكيزة الثّالثة فهي إعادة بناء دولة المؤسّسات على أسس من الكفاءة والشّفافية. ويتطلّب ذلك تطبيق لامركزيّة إداريّة فعليّة، تُقرّب الخدمات من المواطنين، وتحدّ من هيمنة المركز، إلى جانب إصلاح إداري يُعيد الاعتبار لمبدأ الجدارة في التوظيف والترقية بدلاً من الولاء الطائفي والمحسوبيّات. كما ينبغي تحسين الخدمات العامّة في مجالات الكهرباء والمياه والصحّة والتعليم لتكون حقّاً للمواطن، لا امتيازاً تمنحه الزعامات، مع تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال هيئات مستقلّة وإعلام حرّ قادر على الرقابة وكشف الفساد.
إنّ هذه المسارات الثّلاثة ليست خيارات متفرّقة، بل حلقات متكاملة في مشروع وطني واحد، يهدف إلى استعادة ثقة المواطن بدولته، وتأسيس هويّة وطنيّة تتجاوز الاصطفافات الطائفيّة، وبناء مؤسّسات قادرة على إدارة الشأن العامّ بكفاءة وعدالة. فمن دون عدالة حقيقيّة، ومواطنة متساوية، ودولة مؤسّسات فاعلة، لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته البنيويّة، أو أن يُؤسّس لعقد اجتماعي جديد يقوم على الثقة والانتماء والمسؤوليّة المشتركة.
ختاماً، أثبتت التّجربة اللّبنانيّة أنّ استمرار النظام الطائفي يعني استمرار الانهيار، وأن لا مستقبل للبنان إلّا بدولة المواطنة الّتي تُعامل الأفراد على قدم المساواة في الحقوق والواجبات. غير أنّ تجارب دول أخرى تُظهر أنّ تجاوز الانقسامات الحادّة وإعادة بناء الدّولة، ليس أمراً مستحيلاً، بل هو ممكن حين تتوافر الإرادة السياسيّة والرؤية الإصلاحيّة. فدول مثل رواندا، الّتي عانت من حرب أهليّة مروّعة وإبادة جماعيّة، استطاعت عبر مشروع مصالحة وطنيّة وعدالة انتقاليّة حقيقيّة أن تتحوّل خلال عقدين إلى نموذج في الاستقرار والنّمو. وكذلك سنغافورة، الّتي انطلقت من مجتمع منقسم إثنيّاً ودينيّاً، استطاعت بفضل الحوكمة الرشيدة والاستثمار في التعليم والشفافية أن تبني دولة مواطنة مزدهرة، تتجاوز انقساماتها القديمة.
هذه التّجارب تؤكّد أنّ الأزمات ليست قدراً دائماً، بل محطّات يُمكن تجاوزها إذا توافرت الإرادة لتفكيك البنى التقليديّة المعيقة وبناء مؤسّسات عادلة وشاملة. فلبنان، رغم تعقيداته، لا يفتقر إلى الموارد البشريّة، ولا إلى الطاقات الفكريّة، بل إلى عقد سياسي جديد، يُحرّر الدّولة من أسر الطائفيّة، ويُعيد للمواطنة معناها الحقيقي. إنّ التّحدّي الوجودي اليوم يتمثّل في الاختيار بين دولة المواطنين الّتي تنتمي للمستقبل، أو كانتونات طائفيّة متناحرة على أنقاض وطنٍ يتفكّك.