سيف دَموقليس: الردع والردع المضاد بين إيران و"إسرائيل"

نتنياهو سيواجه خطراً سياسياً أكبر إذا تمّ تحميله مسؤولية الدخول في صراع مع إيران، لذلك فإن الهجمات المتأرجحة بين الردع والردع المضاد بين "إسرائيل" وإيران لا تؤدي إلى تحسين موقف نتنياهو السياسي. 

  •  العلاقة بين إيران والكيان الإسرائيلي ستبقى معلّقة فوق رأس المجتمع الدولي.
    العلاقة بين إيران والكيان الإسرائيلي ستبقى معلّقة فوق رأس المجتمع الدولي.

تقول أسطورةٌ يونانيةٌ تعودُ للقرن الرابع قبل الميلاد، إنّ دَموقليس غالى في وصفه لسعادة وحظ ديونيسيوس. ولتلقينه درساً، دعاه ديونيسيوس إلى حفل كبير، وبعدما استقرّ في مقعده، وجد سيفاً معلّقاً بشعرة واحدة من ذيل حصان متدلّياً فوق رأسه. 

وقد ظلّ ذلك السيف يستخدم كتعبير عن الخطر المستمر والوشيك. واليوم، يُستخدم تعبير "سيف دَموقليس" لوصف الخطر الوشيك الذي يتعيّن على من يمتلك القوة مواجهته بأعجوبة.

لقد ظلّ نظام الدفاع الجوي الإيراني في حالة تأهّب قصوى بعد أن تعهّد قادة الكيان الإسرائيلي بالردّ على الضربة الإيرانية غير المسبوقة بطائرات من دون طيّار وصواريخ باليستية يوم الـ 13 من نيسان/أبريل، رداً على العدوان الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق.

 وقد كانت هذه هي المرة الأولى في المواجهة المستمرة منذ عقود بين طرفي الصراع التي تهاجم فيها إيران "إسرائيل" بشكل مباشر وليس عبر وكلاء، وقد فاجأ حجم الوابل الصاروخي -الذي شمل أكثر من 300 طائرة من دون طيار وصواريخ وقذائف باليستية -المراقبين داخل وخارج "إسرائيل"، ودفع ذلك الحكومة الإسرائيلية إلى الإعلان عن ضرورة الردّ.

من جانبه، مجلس الحرب الإسرائيلي كان قد اجتمع عدة مرات منذ الهجوم الإيراني، وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن قراراً بشأن نوع ما من الردّ قد اتُخذ، ولكن تمّ تأجيل الهجوم الفعلي في أكثر من مناسبة. وقد اعتقد الكثيرون في "إسرائيل" أن الوضع سيظل هادئاً ولكن متوتراً حتى بعد عطلة عيد الفصح اليهودي.

لكن ما حدث صباح يوم الجمعة في الـ 19 من نيسان/أبريل كان مفاجئاً، إذ جاء العدوان الإسرائيلي على أصفهان الإيرانية محدوداً جداً، لدرجة دفعت مراقبين غربيين لاعتبار العدوان بمثابة خطوة للوراء من قِبل "إسرائيل"، درءاً لقيام حرب إقليمية قد تكون كارثية على دول المنطقة، خاصةً أنّ "إسرائيل" غارقة في رمال غزة، وما يدعم هذا الاستنتاج أنّ إيران قالت إنها لا تخطّط للانتقام بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على أصفهان، والذي يُعتقَد أن "إسرائيل" شنّته من قواعد سرية لها في كردستان العراق.

بعد الهجوم الإسرائيلي على أصفهان، ساد شعور عام بالخوف في المنطقة، لكن مع مرور الوقت واتضاح حجم العدوان، بدأ الشعور بالخوف والقلق يتبدّد ليفسح المجال تدريجياً للشعور بالراحة نتيجة لمحدودية نتائج الهجوم الإسرائيلي، ويبدو أنّ كلا الخصمين يشيران إلى رغبتهما في إنهاء هذه الدوامة من الضربات والضربات المضادة، وإعادة إنشاء بعض الخطوط الحمر في علاقتهما شديدة العدائية والتي هدّدت بإغراق الشرق الأوسط في حرب واسعة.

التقارير الأولى عن الهجوم الإسرائيلي الذي وقع على أصفهان جاءت من وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية، حيث أشارت إلى وقوع انفجارات ونوع من الهجمات من قبل طائرات العدو الإسرائيلي. ونقلت وسائل الإعلام الأميركية عن مسؤولين أميركيين قولهم إن صواريخ إسرائيلية أصابت موقعاً إيرانياً.

وبعد ساعات من الإعلان، أفاد التلفزيون الرسمي الإيراني بإسقاط ثلاث طائرات صغيرة من دون طيار. لذا فإنّ الضربات التي وقعت في أصفهان ليلة الخميس -الجمعة، جاءت بمثابة مفاجأة إلى حد ما، فهناك جانب غير معتاد في هجوم أصفهان، وهو طبيعة الهجوم، والذي تشير التقارير إلى أنه نُفِّذَ بواسطة طائرات من دون طيار أصغر بكثير ممّا كانت تسوّقه "إسرائيل" لردّها.

 وربما يكون هجوم أصفهان وسيلة إسرائيلية لمواصلة تهديدها بالانتقام من دون تصعيد كبير، فاستخدام الطائرات الصغيرة من دون طيار، مثل المروحيات الرباعية أو الدرون، يوفّر درجة من إعطاء إيران مبرّراً للتقليل من تأثير الهجوم. لذا، يمكن القول إن هذا الهجوم يمثّل عودة إلى حرب الظل المستمرة منذ سنوات بين الطرفين، إذا كان هذا هو مداها الأخير.  كما تشير رسائل قادة إيران التي أعقبت الهجوم إلى أنهم ليسوا مضطرّين للردّ على هذا الهجوم نظراً لمحدوديته، وكونه يمثّل رداً معنوياً لا أكثر ولا أقلّ من قبل "إسرائيل". 

واليوم، يواجه صراع "إسرائيل" مع إيران لحظة مراجعة، وهذا ما يقتضي ضرورة الإجابة عن أسئلة عديدة، ومنها: لماذا شارك الأردن، وربما حتى المملكة العربية السعودية، في الدفاع عن "إسرائيل" ضد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية؟ وإذا كان هذا الجواب بأن ذلك صحيحاً، فإن هذا الجواب سوف يكون بمثابة مبعث ارتياح للكثير من الأطراف في المعسكر المتحالف مع إيران، وبشكل خاص بعد استخدام الولايات المتحدة لحقّ النقض ضدّ مشروع قرار تقدّمت فيه الجزائر لإعلان فلسطين دولة تامة الأركان، في نسف لمبادرة حلّ الدولتين، وهذا ما سوف يزيل الحرج من أمام الدول التي تقف على الحياد من الصراع بين إيران و"إسرائيل".

من جانبه، إيتامار بن غفير، اليميني المتطرّف وزعيم الحزب الإسرائيلي القومي وعضو مجلس الوزراء، قام بكتابة تغريدة مؤلّفة من كلمة واحدة صباح يوم الجمعة على منصة إكس تعقيباً على هجوم أصفهان، وكان محتوى التغريدة هو كلمة "ضعيف" في إشارة واضحة إلى هجوم أصفهان. وكان بن غفير يحثّ على ردّ ساحق على إيران، في حين نصح أعضاء آخرون في حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحربية بالمضي قدماً بحذر أكبر مع التشديد على بناء التحالف مع الولايات المتحدة وضبط النفس وتجنّب مزيد من المخاطر.  

كما أن نتنياهو نفسه لم يقلّ الكثير عن الهجمات الصاروخية الإيرانية ضد "إسرائيل" ولا كيف ينوي الردّ عليها، وهذا ما فسّره مراقبون بأنه تجنّب للمخاطرة.

ويسعى نتنياهو، الذي يواجه اتهامات بالفساد، إلى إقامة علاقة توصف بأنها محفوفة بالمخاطر مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في "إسرائيل" لإبقاء حكومته في السلطة، ويحمّله العديد من الإسرائيليين المسؤولية الشخصية عن هجمات حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ويلومونه لأنه هادن حماس خلال معظم فترة ولايته الطويلة كرئيس وزراء لـ "إسرائيل".

لذلك فإن نتنياهو سيواجه خطراً سياسياً أكبر إذا تمّ تحميله مسؤولية الدخول في صراع كبير مع إيران وتصعيده، لذلك فإن الهجمات المتأرجحة بين الردع والردع المضاد بين "إسرائيل" وإيران لا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى تحسين موقف نتنياهو السياسي. 

إقليمياً، كان ردّ الفعل الأوّلي على هجوم أصفهان من قبل دول المنطقة حذراً ومتأنياً. فقد حذّرت وزارة الخارجية المصرية من عواقب توسيع الصراع الإيراني الإسرائيلي، وقالت إنها تشعر بقلق عميق إزاء تصعيد الأعمال العدائية، واتخذت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لهجة مماثلة وقالت إنه من الضروري للغاية أن تظلّ المنطقة مستقرّة وأن تمتنع جميع الأطراف عن اتخاذ أي إجراء آخر. ولم تعلّق الحكومة الإسرائيلية رسمياً بعد على هجوم أصفهان، وربما قد لا تفعل ذلك، رغم أنها شنّت هجمات إلكترونية سابقاً ضد إيران، وهاجمت منشآت نووية واغتالت قادة مهمين في برنامج إيران النووي السلمي، ولكنها لم تعترف قط بتورّطها بشكل مباشر. 

لقد ساد جو من التوتر الشديد في الأيام التي تلّت الهجوم الإيراني على "إسرائيل" وسط حربها على حركة حماس، وكذلك على المدنيين في قطاع غزة، وضرباتها التي تستهدف إيران في سوريا. ورغم أن هجمات أصفهان وردّ فعل إيران على الهجمات قد تمثّل تراجعاً من جانب الطرفين عن التصعيد الحالي، إلا أن فترة الراحة هذه قد تكون مؤقتة أو محدودة، فـ "إسرائيل" وإيران منخرطتان في هذا الصراع التنافسي بشدة. 

فبالنسبة لـ "إسرائيل"، هناك مشكلة ما تسمّيه وكلاء إيران في سوريا ولبنان وفلسطين، وكذلك مشكلة أن إيران أصبحت على عتبة امتلاك الأسلحة النووية. أما بالنسبة لإيران، فقد ألقي على عاتقها ملف الصراع مع "إسرائيل" نتيجة موجة التطبيع بين الدول العربية و"إسرائيل"، والذي توقّف أو تجمّد على أثر هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر في العام الماضي، إضافةً إلى العداء بين إيران والولايات المتحدة، الداعم الأكبر لـ "إسرائيل". 

لكلّ ذلك، ستبقى العلاقة بين إيران والكيان الإسرائيلي معلّقة فوق رأس المجتمع الدولي مثل سيف دَموقليس.